1- المعمودية
- المعمودية سر الايمان
عندما بشر بطرس الرسول، بعد حلول الروح القدس، بأن يسوع المسيح المصلوب هو الرب يسوع، وانصدعت قلوب مستمعيه وقالوا له ولسائر الرسل: " ماذا علينا ان نصنع، ايها الرجال الاخوة ؟ فقال لهم لطرس: توبوا، وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس " (اع 2: 37: 38). يبين هذا النص ان الاعتراف بيسوع المسيح قد ارتبط منذ البدء بالمعمودية باسم يسوع المسيح. لذا كانت المعمودية على الدوام في الكنيسة المدخل الى الكيان المسيحي بمجمله واساسه. وهي مع التثبيت والافخارستيا سر التنشئة المسيحية والولوج الى الكيان المسيحي والتكرس فيه(را: ل71).
عرف التقليد الايماني الكنسي صورا وعلامات تنبىء بالمعمودية منذ العهد القديم عينه. فقد رأت الكنيسة في رفرفة روح الله الخالق على المياه الاولى، وفي نجاة فلك نوح من ماء الطوفان، وفي انقاذ اسارئيل بعبور البحر الاحمر، دلائل على حقيقة المعمودية ومعناها. ومن اسس الكنيسةالاولى ان يسوع خضع لمعمودية يوحنا، وهناك اعلن انه ابن الله والماسيا الممتلىء من الروح القدس (را: مر1: 9- 11 وإز). ان معمودية يوحنا هي، على نحو ما، وصية الله الاخيرة لاسرائيل قبل ان يأتي يوم الدينونة المنتظر مجيئه قريبا. الجديد في ممارسة المعمودية المسيحية الاولى بازاء معمودية يوحنا يقوم في ان المعمودية المسيحية تتم " باسم يسوع المسيح". وهي لا تعد فقط بالنجاة من الدينونة الآتية، بل تهب منذ الان المشاركة في الخلاص، الذي ظهر بموت يسوع المسيح وقيامته، وظهر ايضا بحلول الروح القدس. ومن ثم فالمعمودية المسيحية قد اعد لها في العهد القديم، وتأسست على المعمودية يسوع نفسها، وهي تستمد قوتها من موت يسوع وقيامته ومن ارسال الروح القدس، وتمنح بتوكيل من الرب القائم من بين الاموات والمرتفع الى مجد الله، وبسلطانه : " لقد دُفع الي كل سلطان في السماء وعلى الارض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم، وعمدوهم باسم الاب والابن والروح القدس. وعلموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به " (متى28: 18-20، را: مر16: 15-16). من قول الرب الاساسي هذا ينتج ان المعمودية المسيحية هي بنوع خاص علامة الايمان، اعني علامة التوبة وارتداد الحياة الى يسوع المسيح والاعتراف به. ولذلك كانت الكنيسة الاولى تفرض قبل معمودية البالغين زمنا طويلا من التنشئة على الايمان وعلى الحياة بموجب الايمان (الموعظية).
أما معمودية الاطفال فيجب ان يسبقها تعليم حول المعمودية للوالدين والعرابين الذين سيقومون لاحقا بتنشئة الطفل المعمد في الايمان. وفي الاحتفال برتبة المعمودية عينها، على المعتمد او على والديه وعرابيه ان يرفضوا الشر (وبتعبير اخر للشيطان)، ويعلنوا اعترافهم بالله الضابط الكل، وبيسوع المسيح، وبالروح القدس. استنادا الى هذا الاعتراف، تمنح المعمودية " باسم الاب والابن والروح القدس ". والايمان ليس ضروريا للمعمودية وحسب بل تنتج عنه ايضا مهمة النمو والنضج في الايمان على مدى الحياة. ودليلا على ذلك تجدد الجماعة عهود المعمودية كل سنة في احتفال ليلة عيد الفصح.
1-2- المعمودية سر الحياة الجديدة
تقوم علامة المعمودية في غسل المعتمد بالماء مع ذكر اسم الاقانيم الالهية الثلاثة: " اعمك باسم الاب والابن والروح القدس ". الماء رمز التطهير وهو ايضا رمز الحياة. وهو يعبرعن ثمرة المعمودية المزدوجة: التطهير من الخطيئة ومنح الحياة الجديدة. المعمودية تغسلنا وتطهرنا من الخطيئة (را: 1كو6: 11، أع22: 16). وهي تحلنا من رباط مصير جميع الناس الوخيم، الذي يجعلهم تحت سلطان الخطيئة، فتحررنا من الخطيئة الاصلية وتغفر لنا كل الخطايا الشخصية المقترفة حتى ذلك الحين. وبتعبير ايجابي المعمودية هي ولادة ثانية الى حياة جديدة (را: يو3: 3-5، تي3: 5، 1بط 1: 3، 23). وهي تهب التبرير والتقديس (را: 1كو 6: 11)، وتمنحنا عطية الروح القدس (را: اع2: 38، 1كو12: 13) وهبة النعمة المقدسة. وتجعلنا أبناء لله وبالتالي ورثة لله ايضا، ووارثين مع المسيح (را: رو8: 17، دنتسنغر 1316، ك11). وتنعكس الحياة الجديدة في الايمان والرجاء والمحبة، التي تنسكب فينا ايضا بالمعمودية. ولان المعمودية تمنح نور الايمان، تدعى ايضا في الكتاب المقدس استنارة (را: عب6: 4، 10: 32). ولذلك في المعمودية يعطى المعتمد شمعة المعمودية مع القول التالي: " تقبل نور المسيح ".
من هذا المعنى الخلاصي الشامل تنتج ضرورة المعمودية للخلاص.
" من آمن واعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يُقضَ عليه " (مر16: 16).
" لا يقدر احد ان يدخل ملكوت السماوات، ما لم يولد من الماء والروح " (يو3: 5).
تعلم الكنيسة ضرورة المعمودية للخلاص فقط للذين بلغتهم كرازة المعمودية واتيحت لهم الفرصة لقبولها. فالله يريد خلاص جميع الناس (را: اتي2: 4-6)، ولذا فالانسان الذي يعيش بحسب ضميره ويتمم ارادة الله كما يعرفها هو في الواقع ، والذي من ثم لو عرف معنى المعمودية لاشتاق الى تقبلها، يحصل على الخلاص بفضل " معمودية الشوق " هذه. ان مغفروة الخطايا وموهبة الحياة الجديدة توهبان لنا في الواقع بيسوع المسيح. ومن ثم فالمعمودية تمنحنا المشاركة في رسالة يسوع المسيح وحياته. بحسب العهد الجديد، تعطى المعمودية " باسم يسوع المسيح " (اع2: 38، را:10 :48، رو6: 3، غل3: 27 الخ). والمقصود في هذه العبارة هو اننا بالمعمودية نصير خاصة الرب يسوع المسيح وخاضعين لسيادته.
المشاركة في رسالة يسوع، اعني في وظيفته الثلاثية ككاهن ونبي وملك، يتم التعبير عنها في الاحتفال بالمعمودية خصوصا من خلال المسح بالزيت ، علامة الكرامة النبوية والكهنوتية والملكية. ومن ثم فالمعمودية هي اساس كهنوت المسيحيين المشترك (را: ك10، 33،ن ر3). كل معمد عليه ان يشهد ليسوع المسيح ويجعله حاضرا في حياته، واسرته، ومهنته. وكما ان يسوع المسيح قد أتم مرة وبوجه نهائي عمل فدائنا، هكذا تكرسنا المعمودية نحن ايضا وبوجه نهائي لخدمته. وهي تطبع في نفس المعتمد " طابعا روحيا لا يُمحى "، هو " وسم المعمودية ". المقصود بهذا التعبير هو ان المعتمد يصير نهائيا خاصة يسوع المسيح، ويتلقى منه بوجه دائم الدعوة والختم والرسالة.
لاجرم ان المعمد يستطيع، بالخطيئة التي قد تصل الى حد جحود الايمان، ان يخون الامانة للمعمودية ويفقد الحياة الجديدة التي وهبت له في يسوع المسيح والروح القدس. لكن الدعوة التي تلقاها من يسوع المسيح وانضمامه الى خدمته والختم به، كل هذا يبقى قائما. لذلك لا تعطى المعمودية الا مرة واحدة ولايجوز تكرارها. المشاركة في حياة يسوع المسيح الجديدة بالمعمودية قد توسع فيها بنوع خاص بولس الرسول، ورأى فيها انضماما الى موت يسوع المسيح وقيامته:
" أم تجهلون أنّا ، جميع من تعمدوا للمسيح، قد اعتمدنا لموته؟ فلقد دُفنا اذن معه بالمعمودية للموت، حتى إنّا، كما اقيم المسيح من بين الاموات بمجد الآب، كذلك نسلك، نحن ايضا، في جدّة الحياة. لأنّا اذا كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير ايضا بشبه قيامته " (رو6: 3-5، را: كو2: 12).
ولأننا بالمعمودية ننضم الى سر يسوع المسيح الفصحي، الى موته وقيامته، علينا كمسيحيين ان نموت عن الخطيئة ونحيا لله. ومن ثم فالمعمودية هي اساس الحياة المسيحية كلها، كما هي ايضا اساس الموت المسيحي.
وانطلاقا من المعمودية، يصح القول التالي : ايها المسيحي، صِر ما انت عليه! ومن ثم فالحياة المسيحية بمجملها ارتداد دائم وجهاد دائم ضد قوى الخطيئة، ونمو دائم في الحياة الجديدة وفي الايمان والرجاء والمحبة. ويدخل في هذا ايضا التقشف، اعني الجهد الثابت في التخلي عن كل مالا ينطبق مع روح يسوع المسيح، والتمرس بالكيان المسيحي، اعني السعي الى التشبه بيسوع المسيح واستمداد القوة من قوته (را: في3: 10، رو8:29، كو3: 9-10). ومن الوسائل التي ياتي التقليد الكنسي على ذكرها الصوم والصلاة والاحسان (را: طو12: 8، متى6: 1-18). وكذلك يدخل ايضا في حياة المعمد انه منذ الان يشترك مسبقا في مجد حياة الرب القائم من بين الاموات، في اختبار اليقين والتعزية والسعادة، حتى اختبار الشراكة والصداقة مع الله على غرار المتصوفين. وثمة نوع مميز من الحياة الجديدة المعطاة في المعمودية، وهو الحياة بحسب المشورات الانجيلية في الفقر الاختياري ،والبتولية، والحياة في الطاعة. بموجب قوانين جماعة روحية. اما تحقيق المعمودية الأسمى والذي هو في الوقت عينه أسمى طريقة للوجود المسيحي، فهو الاستشهاد، وبذل الحياة خصوصا من اجل يسوع المسيح ومن اجل الاخوة والاخوات. وهذا ما عناه آباء الكنيسة في كلامهم على معمودية الدم، انها الغسل الثاني بعد معمودية الماء (ترتُلّيانس
1-3- المعمودية انضمام الى الكنيسة
كما ان الانسان الفرد لا يمكنه ان يعيش الا في جماعة، كذلك المسيحي الفرد، الذي بالمعمودية يولد ثانية الى حياة جديدة، بحاجة هو ايضا الى حماية حيز من الحياة، حيز شعب الله بمجله، اعني الكنيسة. لذلك منذ البدء فُهما المعمودية على انها انضمام الى الكنيسة
(را: اع2: 41، 47 الخ، دنتسنغر 1314، ك11). انها سر التنشئة المسيحية الاساسي (المدخل، والتكريس). والسبب العميق لهذا هو ان المعمودية تضعنا في شركة حياة مع يسوع المسيح، وتضمنا الى جسد المسيح. فبالمعمودية الواحدة نتحد كلنا بالمسيح وفي آن واحد نتحد ايضا في المسيح بعضنا ببعض. وهكذا بالمعمودية ينشأ شعب الله، شعب العهد الجديد، الذي يتجاوز كل الحدود الطبيعية القائمة بين الشعوب والثقافات والطبقات والاعراق والجنس ايضا. ومن ثم يستطيع بولس ان يقول:
" فإنا جميعا قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهودا كنا ام يونانيين، عبيدا أم احرارا، وسقينا جميعا من روح واحد " (1كو12: 13).
" لانكم، انتم جميع الذين اعتمدوا بالمسيح، قد لبستم المسيح. فليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبدٌ ولا حر، ليس ذكر ولا انثى، لانكم جميعا واحد في المسيح يسوع " (غل 3: 27-28، را:كو3: 11).
" كونوا متواضعين، ودعاء، وصابرين، احتملوا بعضكم بعضا بمحبة. اجتهدوا في حفظ وحدة الروح برباط السلام. فإن الجسد واحد، والروح واحد، كما انكم، بدعوتكم، دعيتم الى الرجاء الواحد، وان الرب واحد، والايمان واحد، والمعمودية واحدة، والإله واحد، والاب واحد للجميع، وهو فوق الجميع وخلال الجميع وفي الجميع " (أف 4: 2-6).
بالمعمودية الواحدة ننضم الى جماعة الكنيسة، كنيسة كل العصور وكل الاماكن. والانضمام الى الكنيسة يتم التعبير عنه واقعيا بالدخول في رعية، اي في جماعة محلية هي " اهل لان تسمى بالاسم الذي يتميز به شعب الله الوحيد بكامله: اي كنيسة الله " (ك28). ومن ثم يجب ان تتم المعمودية قانونا في كنيسة الرعية في سياق احتفال يوم الاحد، وفي بعض ايام السنة داخل الاحتفال الافخارستي. اما معمودية الشبان والبالغين فيجب، قدر الامكان، ان تمنح في ليلة عيد الفصح.
وبما ان المعمودية تضم الى جماعة الكنيسة، فالاحتفال بالمعمودية هو عمل من اعمال كهنوت الخدمة الراعوية. وقد كان منح المعمودية في الكنيسة القديمة من امتيازات الاسقف. وفي ما بعد أنتقل الاحتفال بالمعمودية ايضا الى الكهنة والشمامسة. ولكن بما ان المعمودية ضرورية للخلاص، يستطيع، في الحالات الطارئة، اي مسيحي، اي انسان، وحتى غير المعمد، ان يمنح المعمودية بوجه صحيح، على ان يفعل ذلك بموجب الصيغة التي تفرضها الكنيسة وبحسب نيتها (را: دنتسنغر 1315، ك17). ذلك ان الذي يمنح المعمودية انما هو يسوع المسيح نفسه (را: ل7).
ومن طابع المعمودية الكنسي ان الجماعة كلها مسؤولة عن ايمان المعتمد الجديد. وفي ذلك تقع مسؤولية خاصة على عاتق العرابين. ان المعمودية الواحدة تجعل من الجميع اخوة واخوات. هذه الوحدة الاساسية لجميع المعمدين والتي تتخطى كل الحواجز الطبيعية يجب ان تظهر بوجه محسوس في مساعدة البعض للبعض الآخر، وفي تبادل الخيرات الزمنية والروحية. ويجب ان يحظى خصوصا الفقراء والمرضى والمعاقون والغرباء بمكان الكرامة في الجماعة. منذ القرون الاولى للمسيحية كانت ضيافة الغرباء تعد تعبيرا مهما عن الترابط المشترك في المسيح بالمعمودية الواحدة. ونقرأ في قوانين القديس بندكتوس: " يجب استقبال كل الضيوف كانهم المسيح، لانه هو نفسه سوف يقول يوما: كنت غريبا فآويتموني ". وهكذا يجب على المعمد، الذي هو على الارض غريب وضيف وليس له مقر باق، ان يكون في الكنيسة المنتشرة في العالم كله اينما كان كأنه في بيته.
ثم اننا بالمعمودية المشتركة نرتبط بالمسيحيين المعمدين الذين لا ينتمون الى شركة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فعلى اثر جدل طويل، أقرت الكنيسة، منذ الصراع حول معمودية المبتدعين في القرن الرابع، ومع الدوناتيين في القرن الخامس، صحة المعمودية التي تمنح بموجب الصيغة الصحيحة خارج الكنيسة الكاثوليكية. ومن ثم فالمعمودية هي اساس الشركة المسكونية واساس المساعي المسكونية التي تبذل لبلوغ الشركة الكاملة بين الكنائس، تلك الشركة التي تجد اكمل تعبير لها في الشرك
- المعمودية سر الايمان
عندما بشر بطرس الرسول، بعد حلول الروح القدس، بأن يسوع المسيح المصلوب هو الرب يسوع، وانصدعت قلوب مستمعيه وقالوا له ولسائر الرسل: " ماذا علينا ان نصنع، ايها الرجال الاخوة ؟ فقال لهم لطرس: توبوا، وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس " (اع 2: 37: 38). يبين هذا النص ان الاعتراف بيسوع المسيح قد ارتبط منذ البدء بالمعمودية باسم يسوع المسيح. لذا كانت المعمودية على الدوام في الكنيسة المدخل الى الكيان المسيحي بمجمله واساسه. وهي مع التثبيت والافخارستيا سر التنشئة المسيحية والولوج الى الكيان المسيحي والتكرس فيه(را: ل71).
عرف التقليد الايماني الكنسي صورا وعلامات تنبىء بالمعمودية منذ العهد القديم عينه. فقد رأت الكنيسة في رفرفة روح الله الخالق على المياه الاولى، وفي نجاة فلك نوح من ماء الطوفان، وفي انقاذ اسارئيل بعبور البحر الاحمر، دلائل على حقيقة المعمودية ومعناها. ومن اسس الكنيسةالاولى ان يسوع خضع لمعمودية يوحنا، وهناك اعلن انه ابن الله والماسيا الممتلىء من الروح القدس (را: مر1: 9- 11 وإز). ان معمودية يوحنا هي، على نحو ما، وصية الله الاخيرة لاسرائيل قبل ان يأتي يوم الدينونة المنتظر مجيئه قريبا. الجديد في ممارسة المعمودية المسيحية الاولى بازاء معمودية يوحنا يقوم في ان المعمودية المسيحية تتم " باسم يسوع المسيح". وهي لا تعد فقط بالنجاة من الدينونة الآتية، بل تهب منذ الان المشاركة في الخلاص، الذي ظهر بموت يسوع المسيح وقيامته، وظهر ايضا بحلول الروح القدس. ومن ثم فالمعمودية المسيحية قد اعد لها في العهد القديم، وتأسست على المعمودية يسوع نفسها، وهي تستمد قوتها من موت يسوع وقيامته ومن ارسال الروح القدس، وتمنح بتوكيل من الرب القائم من بين الاموات والمرتفع الى مجد الله، وبسلطانه : " لقد دُفع الي كل سلطان في السماء وعلى الارض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم، وعمدوهم باسم الاب والابن والروح القدس. وعلموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به " (متى28: 18-20، را: مر16: 15-16). من قول الرب الاساسي هذا ينتج ان المعمودية المسيحية هي بنوع خاص علامة الايمان، اعني علامة التوبة وارتداد الحياة الى يسوع المسيح والاعتراف به. ولذلك كانت الكنيسة الاولى تفرض قبل معمودية البالغين زمنا طويلا من التنشئة على الايمان وعلى الحياة بموجب الايمان (الموعظية).
أما معمودية الاطفال فيجب ان يسبقها تعليم حول المعمودية للوالدين والعرابين الذين سيقومون لاحقا بتنشئة الطفل المعمد في الايمان. وفي الاحتفال برتبة المعمودية عينها، على المعتمد او على والديه وعرابيه ان يرفضوا الشر (وبتعبير اخر للشيطان)، ويعلنوا اعترافهم بالله الضابط الكل، وبيسوع المسيح، وبالروح القدس. استنادا الى هذا الاعتراف، تمنح المعمودية " باسم الاب والابن والروح القدس ". والايمان ليس ضروريا للمعمودية وحسب بل تنتج عنه ايضا مهمة النمو والنضج في الايمان على مدى الحياة. ودليلا على ذلك تجدد الجماعة عهود المعمودية كل سنة في احتفال ليلة عيد الفصح.
1-2- المعمودية سر الحياة الجديدة
تقوم علامة المعمودية في غسل المعتمد بالماء مع ذكر اسم الاقانيم الالهية الثلاثة: " اعمك باسم الاب والابن والروح القدس ". الماء رمز التطهير وهو ايضا رمز الحياة. وهو يعبرعن ثمرة المعمودية المزدوجة: التطهير من الخطيئة ومنح الحياة الجديدة. المعمودية تغسلنا وتطهرنا من الخطيئة (را: 1كو6: 11، أع22: 16). وهي تحلنا من رباط مصير جميع الناس الوخيم، الذي يجعلهم تحت سلطان الخطيئة، فتحررنا من الخطيئة الاصلية وتغفر لنا كل الخطايا الشخصية المقترفة حتى ذلك الحين. وبتعبير ايجابي المعمودية هي ولادة ثانية الى حياة جديدة (را: يو3: 3-5، تي3: 5، 1بط 1: 3، 23). وهي تهب التبرير والتقديس (را: 1كو 6: 11)، وتمنحنا عطية الروح القدس (را: اع2: 38، 1كو12: 13) وهبة النعمة المقدسة. وتجعلنا أبناء لله وبالتالي ورثة لله ايضا، ووارثين مع المسيح (را: رو8: 17، دنتسنغر 1316، ك11). وتنعكس الحياة الجديدة في الايمان والرجاء والمحبة، التي تنسكب فينا ايضا بالمعمودية. ولان المعمودية تمنح نور الايمان، تدعى ايضا في الكتاب المقدس استنارة (را: عب6: 4، 10: 32). ولذلك في المعمودية يعطى المعتمد شمعة المعمودية مع القول التالي: " تقبل نور المسيح ".
من هذا المعنى الخلاصي الشامل تنتج ضرورة المعمودية للخلاص.
" من آمن واعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يُقضَ عليه " (مر16: 16).
" لا يقدر احد ان يدخل ملكوت السماوات، ما لم يولد من الماء والروح " (يو3: 5).
تعلم الكنيسة ضرورة المعمودية للخلاص فقط للذين بلغتهم كرازة المعمودية واتيحت لهم الفرصة لقبولها. فالله يريد خلاص جميع الناس (را: اتي2: 4-6)، ولذا فالانسان الذي يعيش بحسب ضميره ويتمم ارادة الله كما يعرفها هو في الواقع ، والذي من ثم لو عرف معنى المعمودية لاشتاق الى تقبلها، يحصل على الخلاص بفضل " معمودية الشوق " هذه. ان مغفروة الخطايا وموهبة الحياة الجديدة توهبان لنا في الواقع بيسوع المسيح. ومن ثم فالمعمودية تمنحنا المشاركة في رسالة يسوع المسيح وحياته. بحسب العهد الجديد، تعطى المعمودية " باسم يسوع المسيح " (اع2: 38، را:10 :48، رو6: 3، غل3: 27 الخ). والمقصود في هذه العبارة هو اننا بالمعمودية نصير خاصة الرب يسوع المسيح وخاضعين لسيادته.
المشاركة في رسالة يسوع، اعني في وظيفته الثلاثية ككاهن ونبي وملك، يتم التعبير عنها في الاحتفال بالمعمودية خصوصا من خلال المسح بالزيت ، علامة الكرامة النبوية والكهنوتية والملكية. ومن ثم فالمعمودية هي اساس كهنوت المسيحيين المشترك (را: ك10، 33،ن ر3). كل معمد عليه ان يشهد ليسوع المسيح ويجعله حاضرا في حياته، واسرته، ومهنته. وكما ان يسوع المسيح قد أتم مرة وبوجه نهائي عمل فدائنا، هكذا تكرسنا المعمودية نحن ايضا وبوجه نهائي لخدمته. وهي تطبع في نفس المعتمد " طابعا روحيا لا يُمحى "، هو " وسم المعمودية ". المقصود بهذا التعبير هو ان المعتمد يصير نهائيا خاصة يسوع المسيح، ويتلقى منه بوجه دائم الدعوة والختم والرسالة.
لاجرم ان المعمد يستطيع، بالخطيئة التي قد تصل الى حد جحود الايمان، ان يخون الامانة للمعمودية ويفقد الحياة الجديدة التي وهبت له في يسوع المسيح والروح القدس. لكن الدعوة التي تلقاها من يسوع المسيح وانضمامه الى خدمته والختم به، كل هذا يبقى قائما. لذلك لا تعطى المعمودية الا مرة واحدة ولايجوز تكرارها. المشاركة في حياة يسوع المسيح الجديدة بالمعمودية قد توسع فيها بنوع خاص بولس الرسول، ورأى فيها انضماما الى موت يسوع المسيح وقيامته:
" أم تجهلون أنّا ، جميع من تعمدوا للمسيح، قد اعتمدنا لموته؟ فلقد دُفنا اذن معه بالمعمودية للموت، حتى إنّا، كما اقيم المسيح من بين الاموات بمجد الآب، كذلك نسلك، نحن ايضا، في جدّة الحياة. لأنّا اذا كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير ايضا بشبه قيامته " (رو6: 3-5، را: كو2: 12).
ولأننا بالمعمودية ننضم الى سر يسوع المسيح الفصحي، الى موته وقيامته، علينا كمسيحيين ان نموت عن الخطيئة ونحيا لله. ومن ثم فالمعمودية هي اساس الحياة المسيحية كلها، كما هي ايضا اساس الموت المسيحي.
وانطلاقا من المعمودية، يصح القول التالي : ايها المسيحي، صِر ما انت عليه! ومن ثم فالحياة المسيحية بمجملها ارتداد دائم وجهاد دائم ضد قوى الخطيئة، ونمو دائم في الحياة الجديدة وفي الايمان والرجاء والمحبة. ويدخل في هذا ايضا التقشف، اعني الجهد الثابت في التخلي عن كل مالا ينطبق مع روح يسوع المسيح، والتمرس بالكيان المسيحي، اعني السعي الى التشبه بيسوع المسيح واستمداد القوة من قوته (را: في3: 10، رو8:29، كو3: 9-10). ومن الوسائل التي ياتي التقليد الكنسي على ذكرها الصوم والصلاة والاحسان (را: طو12: 8، متى6: 1-18). وكذلك يدخل ايضا في حياة المعمد انه منذ الان يشترك مسبقا في مجد حياة الرب القائم من بين الاموات، في اختبار اليقين والتعزية والسعادة، حتى اختبار الشراكة والصداقة مع الله على غرار المتصوفين. وثمة نوع مميز من الحياة الجديدة المعطاة في المعمودية، وهو الحياة بحسب المشورات الانجيلية في الفقر الاختياري ،والبتولية، والحياة في الطاعة. بموجب قوانين جماعة روحية. اما تحقيق المعمودية الأسمى والذي هو في الوقت عينه أسمى طريقة للوجود المسيحي، فهو الاستشهاد، وبذل الحياة خصوصا من اجل يسوع المسيح ومن اجل الاخوة والاخوات. وهذا ما عناه آباء الكنيسة في كلامهم على معمودية الدم، انها الغسل الثاني بعد معمودية الماء (ترتُلّيانس
1-3- المعمودية انضمام الى الكنيسة
كما ان الانسان الفرد لا يمكنه ان يعيش الا في جماعة، كذلك المسيحي الفرد، الذي بالمعمودية يولد ثانية الى حياة جديدة، بحاجة هو ايضا الى حماية حيز من الحياة، حيز شعب الله بمجله، اعني الكنيسة. لذلك منذ البدء فُهما المعمودية على انها انضمام الى الكنيسة
(را: اع2: 41، 47 الخ، دنتسنغر 1314، ك11). انها سر التنشئة المسيحية الاساسي (المدخل، والتكريس). والسبب العميق لهذا هو ان المعمودية تضعنا في شركة حياة مع يسوع المسيح، وتضمنا الى جسد المسيح. فبالمعمودية الواحدة نتحد كلنا بالمسيح وفي آن واحد نتحد ايضا في المسيح بعضنا ببعض. وهكذا بالمعمودية ينشأ شعب الله، شعب العهد الجديد، الذي يتجاوز كل الحدود الطبيعية القائمة بين الشعوب والثقافات والطبقات والاعراق والجنس ايضا. ومن ثم يستطيع بولس ان يقول:
" فإنا جميعا قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهودا كنا ام يونانيين، عبيدا أم احرارا، وسقينا جميعا من روح واحد " (1كو12: 13).
" لانكم، انتم جميع الذين اعتمدوا بالمسيح، قد لبستم المسيح. فليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبدٌ ولا حر، ليس ذكر ولا انثى، لانكم جميعا واحد في المسيح يسوع " (غل 3: 27-28، را:كو3: 11).
" كونوا متواضعين، ودعاء، وصابرين، احتملوا بعضكم بعضا بمحبة. اجتهدوا في حفظ وحدة الروح برباط السلام. فإن الجسد واحد، والروح واحد، كما انكم، بدعوتكم، دعيتم الى الرجاء الواحد، وان الرب واحد، والايمان واحد، والمعمودية واحدة، والإله واحد، والاب واحد للجميع، وهو فوق الجميع وخلال الجميع وفي الجميع " (أف 4: 2-6).
بالمعمودية الواحدة ننضم الى جماعة الكنيسة، كنيسة كل العصور وكل الاماكن. والانضمام الى الكنيسة يتم التعبير عنه واقعيا بالدخول في رعية، اي في جماعة محلية هي " اهل لان تسمى بالاسم الذي يتميز به شعب الله الوحيد بكامله: اي كنيسة الله " (ك28). ومن ثم يجب ان تتم المعمودية قانونا في كنيسة الرعية في سياق احتفال يوم الاحد، وفي بعض ايام السنة داخل الاحتفال الافخارستي. اما معمودية الشبان والبالغين فيجب، قدر الامكان، ان تمنح في ليلة عيد الفصح.
وبما ان المعمودية تضم الى جماعة الكنيسة، فالاحتفال بالمعمودية هو عمل من اعمال كهنوت الخدمة الراعوية. وقد كان منح المعمودية في الكنيسة القديمة من امتيازات الاسقف. وفي ما بعد أنتقل الاحتفال بالمعمودية ايضا الى الكهنة والشمامسة. ولكن بما ان المعمودية ضرورية للخلاص، يستطيع، في الحالات الطارئة، اي مسيحي، اي انسان، وحتى غير المعمد، ان يمنح المعمودية بوجه صحيح، على ان يفعل ذلك بموجب الصيغة التي تفرضها الكنيسة وبحسب نيتها (را: دنتسنغر 1315، ك17). ذلك ان الذي يمنح المعمودية انما هو يسوع المسيح نفسه (را: ل7).
ومن طابع المعمودية الكنسي ان الجماعة كلها مسؤولة عن ايمان المعتمد الجديد. وفي ذلك تقع مسؤولية خاصة على عاتق العرابين. ان المعمودية الواحدة تجعل من الجميع اخوة واخوات. هذه الوحدة الاساسية لجميع المعمدين والتي تتخطى كل الحواجز الطبيعية يجب ان تظهر بوجه محسوس في مساعدة البعض للبعض الآخر، وفي تبادل الخيرات الزمنية والروحية. ويجب ان يحظى خصوصا الفقراء والمرضى والمعاقون والغرباء بمكان الكرامة في الجماعة. منذ القرون الاولى للمسيحية كانت ضيافة الغرباء تعد تعبيرا مهما عن الترابط المشترك في المسيح بالمعمودية الواحدة. ونقرأ في قوانين القديس بندكتوس: " يجب استقبال كل الضيوف كانهم المسيح، لانه هو نفسه سوف يقول يوما: كنت غريبا فآويتموني ". وهكذا يجب على المعمد، الذي هو على الارض غريب وضيف وليس له مقر باق، ان يكون في الكنيسة المنتشرة في العالم كله اينما كان كأنه في بيته.
ثم اننا بالمعمودية المشتركة نرتبط بالمسيحيين المعمدين الذين لا ينتمون الى شركة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فعلى اثر جدل طويل، أقرت الكنيسة، منذ الصراع حول معمودية المبتدعين في القرن الرابع، ومع الدوناتيين في القرن الخامس، صحة المعمودية التي تمنح بموجب الصيغة الصحيحة خارج الكنيسة الكاثوليكية. ومن ثم فالمعمودية هي اساس الشركة المسكونية واساس المساعي المسكونية التي تبذل لبلوغ الشركة الكاملة بين الكنائس، تلك الشركة التي تجد اكمل تعبير لها في الشرك