رسالةالى أساقفة الكنيسة الكاثوليكية
حول تعاون الرجل والمرأة
في الكنيسة والعالم
مقدمة:
1. ان الكنيسة، وهي الخبيرة في أمور الإنسان، اهتمّت دوماً بشؤون الرجل والمرأة. وفي الآونة الأخيرة، كثر التفكير بكرامة المرأة، بحقوقها وواجباتها في مجالات عدة من الحياة الإجتماعية والكنسية. فبعد ان ساهمت بعمق في هذا الموضوع الأساسي، وبخاصة في تعليم البابا يوحنا بولس الثاني[1]، يوجِّه اليها اليوم بعض التيارات الفكرية، التي غالباً ما لا تتوافق طروحاتها والمنظور الصحيح لترقية المرأة، بعض التساؤلات.
بعد مقدمة قصيرة وتقدير نقدي لبعض النظريات الأنتروبولوجيّة المعاصرة، تبغي هذه الوثيقة ان تعرض افكاراً توحيها معطيات عقائدية للأنتروبولوجيا الكتابية – لا غنى عنها للحفاظ على هوية الشخص البشري – حول بعض افتراضات متأتية عن نظرة صحيحة للتعاون الفعّال بين الرجل والمرأة في الكنيسة والعالم، من خلال الإعتراف بما يميّزهما. من ناحية أخرى، تبغي
هذه الوثيقة ان تكون نقطة انطلاق لمحاولة تعمّق داخل الكنيسة ذاتها ولخلق حوار مع رجال ونساء ذوي ارادة طيبة في بحث صادق عن الحقيقة ولأجل التزام مشترك لنسج علاقات سليمة تزداد مع الأيام.
1- المشكلة:
2. لاحظنا، في هذه السنين الأخيرة، ظهور أميال جديدة لمواجهة قضيّة المرأة. ميل أول يشدّد على وضع تبعيّة المرأة بغاية خلق موقف رفض. فلكي تثبت هويّتها، تنصّب المرأة ذاتها منافسة للرجل. في مواجهة تجاوز الرجل لحقوقه تردّ بسياسة التماس السلطة. تؤدي هذه الطريقة الى منافسة بين الجنسين تتحقّق هوّية الواحد ودوره على حساب الآخر، ينتج عن ذلك في الأنتروبولوجيا فوضى قتّالة تظهر نتائجها المباشرة والضارّة في هيكليّة العائلة.
والميل الثاني يظهر في خطّ الميل الأوّل. فلتجنّب كلّ سلطوية لجنس على الآخر، يريدون محو الفروقات التي يعتبرونها كمحض نتائج لوضع تاريخي وحضاري. في هذه المساواة تشديد مبالغ فيه على الفرق الجسدي المدعو جنساً، بينما البعد الثقافي المدعو «نوعاً» يُعتبر أوّليّا. لحجب الفرق أو الثنائيّة الجنسيّة نتائج هامّة على أكثر من صعيد. أنتروبولوجيا كهذه تعمل لغايات تدعو الى مساواة تحرّر المرأة من كل حتميّة بيولوجيّة أدّت عملياً الى ايديولوجيّات تشجعّ مثلا التشكيك في العائلة القائمة على أب وأم، كما انها تضع على ذات المستوى العلاقات المثليّة والعلاقات بين الجنسين، أي الى مثال جديد من العلاقات الجنسيّة المتعددة الأوجه.
3. يجد هذا الميل جذوره المباشرة في اطار قضيّة المرأة، بينما مسبّباته العميقة يجب البحث عنها في محاولة الشخص البشري التحرّر من أوضاعه البيّولوجيّة[2]. بحسب هذه النظرة البيولوجيّة، لا يكون للطبيعة البشريّة خواص في ذاتها تفرض نفسها بطريقة مطلقة: باستطاعة كل فرد وعليه أن يقرّر ما يريد أن يكون، وذلك بإرادته، إذ يصبح حرّا من كل حتميّة مرتبطة بطبيعته الإنسانيّة.
لهذه النظريّة نتائج عدة. فهي تأخذ بالقول بأن تحرير المرأة ينطوي على نقد للكتاب المقدّس الذي يحمل، كما يظنّون، نظرة ذكوريّة لله، نظرة تشجعّها ثقافة ذكوريّة لله، نظرة تشجعّها ثقافة ذكوريّة في الأساس. من جهة أخرى يعتبر هذا الميل أنّ كونَ ابنِ الله الذي اخذ الطبيعة البشريّة ذكرا، أمر غير ذي أهميّة وبدون أي تأثير.
4. تجاه هذه التيّارات الفكريّة، فالكنيسة وقد استنارت بإيمانها بيسوع المسيح، تتكلّم على مساهمة فعّالة بين الرجل والمرأة وبخاصّة في ما يتعلّق بالاعتراف بما يميّزهما.
لكي نفهم أساس ومعنى ونتائج هذا الجواب، يحسن بنا أن نعود، ولو لماما، الى الكتاب المقدّس الغني بالحكمة البشرية حيث ظهر هذا الجواب تدريجيّا بفضل تدخّل الله لصالح البشريّة[3].
2- المعطيات الأساسيّة للأنتروبولوجيا الكتابيّة:
5. تتألّف المجموعة الأولى من النصوص الكتابيّة المعروضة للبحث من الفصول الثلاثة الأولى من سفر التكوين. «تضعنا هذه الفصول في إطار "البدء" الكتابي حيث الحقيقة الموحاة بخصوص الإنسان كصورة الله ومثاله» تؤلّف الأساس غير المتغيّر لكل أنتروبولوجيا مسيحية[4].
في النصّ الأوّل (تك 1/1-2/4) وصف لقدرة كلمة الله الخلاّقة التي تفصل بين عناصر الفوضى الأولى. فيظهر النور والظلام، والبحر واليَبس، والأعشاب والشجر، والأسماك والطيور «بحسب أصنافها». هكذا يولد عالم منظّم إنطلاقاً من فروقات هي من جهة ثانية وفي الوقت معاً وعود بعلاقات. وهكذا يظهر كتصميم أوّلي الإطار العام حيث يبرز مخطط خلق الإنسان. «قال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا، خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، رجلاً وامرأة خلقه» (تك 1/26-27). يصوّر النص البشريّة بتفصيل منذ نشأتها بالنظر للعلاقة بين المذكّر والمؤنّت. وهي هذه البشريّة ذات الجنسين التي يقول عنها النص بصراحة انها «صورة الله».
6. يؤكّد النص الثاني (تك 2/4-25) بدون لبس على أهمية التمييز الجنسي. صوّر الله الإنسان ووضعه في جنة عدن وسلّمه ادارتها. بعد ذلك فالذي كان يُدعى آدم، بكلمة عامة، اختبر وحشة لم يستطع وجود الحيوانات أن يملأها. فهو بحاجة الى عون بازائه؛ لا تعني الكلمة دوراً ثانوياً بل عوناً حياتياً[5]. إذ الغاية هي السماح لحياة آدم ألاّ تضيع في علاقة بالذات فقط، علاقة عقيمة وفي النهاية حاملة الموت. فكان من الضروري أن يدخل بعلاقة مع شخص آخر يماثله. وحدها المرأة، المخلوقة من «اللحم» ذاته، تعطي حياة الرجل مستقبلاً. وهذا يتحقق على صعيد أنتولوجي بمعنى أن خلق المرأة يميّز البشريّة كحقيقة ذات علاقة. وفي هذا اللقاء أيضاً، تبرز الكلمة التي تجعل الرجل يفتح فمه للمرّة الأولى بعبارة الاندهاش: «ها هذه المرة عظم من عظامي ولحم من لحمي» (تك 2/23).
يقول قداسة البابا مستشهداً بنص التكوين هذا، «المرأة هي "أنا" آخر في بشريّتها المشتركة. منذ البدء يبدو [الرجل والمرأة] «كوحدة اثنين» أي ان الوحشة انتفت حين لم يكن للرجل «عون يناسبه» (تك 2/20). هل المراد «عون» للعمل على السيطرة على الأرض فحسب (تك 1/28)؟ كلا بل المراد هو رفيقة حياة يستطيع الرجل أن يتّحد بها ويصير معها «جسداً واحداً ولأجلها «يترك أباه وأمه» (تك 2/24)[6].
الفرق الحياتي موجّه الى الإتحاد وهو يُعاش على نحو هادىء يعبّر عنه موضوع العري: «وكان كلاهما، الرجل والمرأة، عريانين ولم يكونا ليخجلا واحدهما من الآخر» (تك 2/25). وهكذا فالجسد البشري، المطبوع بطابع التذكير والتأنيث، «ينعم منذ البدء بصفة الزوجية أي بإمكانيّة التعبير عن الحبّ؛ هذا الحب ذاته الذي به يصبح الإنسان – الشخص – عطاء، وبهذا العطاء يحقّق معنى كيانه ووجوده»[7]. ويتابع قداسته، وهو يشرح هذه الآيات من سفر التكوين: «بميزته هذه، فالجسد تعبير عن الروح وهو مدعو، في سرّ الخلق بالذات، إلى الوجود في اتحاد الأشخاص "على صورة الله"»[8].
من هذا المنظور الزوجي نفهم المعنى الذي رمى إليه سفر التكوين القائل ان المرأة، في عمق كيانها الأصيل، موجودة للآخر (1 قو11/9). إنه تأكيد لا يلمّح البتّة إلى تنازل عن الحرية، بل يعبّر عن نظرة أساسيّة إلى الشبه مع الثالوث الأقدس حيث الأقانيم، منذ مجيء المسيح، توحي بأنهم في وحدة حب الواحد مع الآخر. «في وحدة الإثنين، الرجل والمرأة مدعوّان منذ البدء ليس فقط للوجود أحدهم بقرب الآخر أو للوجود معاً، بل بوجود أحدهما للآخر،... ونص سفر التكوين 2/18-25 يوحي بأن الزواج هو البعد الأول، وإن صحّ الكلام الأساسي، لهذه الدعوة. لكنه ليس البعد الوحيد. وكل تاريخ الإنسان على الأرض يتحقّق في إطار هذه الدعوة. إنطلاقاً من المبدأ القائل ان كل واحد يعيش "للآخر" في وحدة شخصية، نرى، خلال هذا التاريخ، ان ما هو مذكّر وما هو مؤنّث يندمجان في البشرية بالذات، كما أرادها الله»[9].
هذه النظرة الهادئة، التي يختتم بها نصّ الخلق الثاني، هي صدى لعبارة «جيد جداً» التي بها ينتهي خلق الرجل والمرأة في الفصل الأول. نحن هنا في صلب مخطّط الله الأول وفي صلب الحقيقة الأعمق بما يتعلّق بالرجل والمرأة، كما خطّط الله لهما وخلقهما. ومع ان هذه الترتيبات الأولى قد تشوّشت وتشوّهت بالخطيئة، فهي لا يمكن أن تمّحى أبداً.
7. إن الخطيئة الأصليّة أفسدت طريقة تقبّل كلمة الله وعيشها لدى الرجل والمرأة كما أفسدت علاقتهما بالله. فبعد أن أهداهما الفردوس مباشرة، أعطاهما وصيّة إيجابية (تك 2/16) أتبعها بأخرى سلبيّة (تك 2/17) حيث نجد التأكيد الضمني على الفرق الأساسي بين الله والبشرية. وبوسوسة من الشيطان، راح الرجل والمرأة يشككان بهذا الفرق. وبالنتيجة تشوّشت أيضاً طريقة عيشهما لما يميّزهما جنسيّاً. وهكذا نصّ سفر التكوين يجعل علاقة سببيّة بين ما يفرّقهما؛ لمّا اعتبرت البشريّة الله عدوّاً، تشوّشت العلاقة بين الرجل والمرأة؛ وحين فسدت هذه العلاقة تعرّض للخطر أيضاً الوصول إلى وجه الله.
في الكلمات التي وجّهها الله للمرأة بعد الخطيئة يظهر، بطريقة جليّة لا تقلّ بلاغة عن سواها، نوع العلاقات التي ستقوم من الآن فصاعداً بين الرجل والمرأة: «تقودك أشواقك إلى زوجك وهو يسود عليك» (تك 3/16). وأصبحت العلاقة غالباً ما يكون الحب فيها مشوّشاً ضائعاً في بحث عن الذات، في علاقة تتنكّر للحبّ وتقتله وتُحلّ محلّه نيراً من استعباد جنس للآخر. ويعيد تاريخ البشرية هذه الأوضاع حيث تظهر الشهوة المثلّثة التي يتكلّم عليها القديس يوحنا: شهوة اللحم وشهوة الكبريـاء وشهوة الغنى (1يو2/16). إنه وضع مأساوي تضيع فيه المساواة والإحترام والحب الذي يتطلّب، بحسب قصد الله الأولي، العلاقة بين الرجل والمرأة.
8. إعادة قراءة النصوص الأساسيّة تحمل على إعادة التأكيد على معطيات رئيسيّة للأنتروبولوجيا الكتابيّة.
يجب التشديد أوّلاً على الطابع الشخصي للكائن الإنساني. الإنسان شخص وذلك بالنسبة الى الرجل والمرأة. إذ الإثنان خلقا على صورة الله – الشخص ومثاله[10]. كرامة الأشخاص تتحقّق كتكامل فيزيولوجي وسكولوجي وانتولوجي، ما يؤدي إلى «وحدة بين الإثنين» متناغمة ومنطقيّة بنوع ان الخطيئة وهيكليّة الخطيئة وحدهما القائمين في الثقافة جعلا منها نبع خلاف. توحي الأنتروبولوجيا الكتابيّة بمجابهة المشاكل التي، على الصعيد الخاص والعام، تشكك بالفرق بين الجنسين، وذلك بأعمال تمهيديّة علائقيّة عوض عن المنافسة والمزاحمة.
ينبغي أيضاً الإشارة إلى أهميّة الفرق بين الجنسين وإلى معناه كواقع مطبوع في عمق الرجل والمرأة. «فالميل الجنسي يطبع الرجل والمرأة ليس فقط على الصعيد المادي بل أيضاً على الصعيد السيكولوجي والروحي كما يطبع كل تعابيرهما»[11]. فلا يمكن حصرها بمعطى بيولوجي تافه، بل هو عنصر أساسي للشخصيّة، ونوع من أنواع وجوده وتجلّيه واتصاله بالآخرين وبشعوره وتعبيره عن الحب البشري وعيشه له»[12]. هذه القدرة على الحبّ هي انعكاس لله- المحبة وصورته وتجد أحد تعابيره في خواصّ الجسد الزوجيّة حيث هو منقوش الطابع الذكري أو الأنثوي للإنسان.
ما يهمنا هو البعد الأنتروبولوجي للجنس الذي لا ينفصل عن البعد اللاهوتي. فالمخلوق البشري، في وحدة نفسه وجسده، هو منذ البدء مخلوق لأجل العلاقة بالآخر. وهذه العلاقة تظهر دائماً صالحة ومشوّهة في الوقت معاً. هي صالحة نظراً للصلاح الأصلي الذي أعلنه الله منذ بدء الخليقة. ولكنها أيضاً مشوّهة بسبب فقدان التناغم بين الله والإنسان الذي حصل من جراء الخطيئة. وهذا الفساد لا يتناسب ومخطط الله الأساسي للرجل والمرأة ولا وحقيقة العلاقة بين الجنسين. من هنا ان هذه العلاقة الفاسدة هي بحاجة ألى شفاء. فما عساها تكون طرق الشفاء هذه؟
إن أخذنا وحلّلنا القضايا المختّصة بالعلاقة بين الجنسين من وضع موسوم بالخطيئة فحسب، عدنا حتماً إلى الضلالات التي ذكرنا. فينبغي إذن أن ندع جانباً منطق الحطيئة هذا وأن نبحث عن مخرج يسمح بإلغاء هذا المنطق عن قلب الإنسان الخاطىء. هناك توجيه واضح بهذا الصدد نجده في وعد الله بمخلّص تلتزم به المرأة «ونسلها» (تك 3/15). إنه وعد يتطلّب، قبل أن يتحقّق، تهيئة طويلة الأمد على مدى التاريخ.
9. هناك انتصار أول على الشرّ تمثلّه قصة نوح، الرجل البار الذي، بنعمة الله، نجا من الطوفان مع عائلته وسائر أنواع الحيوانات (تك 6-9). وهناك خاصة اختيار الله لابراهيم ونسله (تك 12/1...) يؤكّد رجاء الخلاص. هكذا راح الله يكشف عن وجهه لكي، من خلال الشعب المختار، تتعلّم البشريّة طريق التشبّه بالله، أي طريق القداسة، طريق تغيير القلب. ومن بين الطرق العديدة التي ظهر بها الله لشعبه (عب 1/1)، من خلال تربية طويلة المدى، هناك أيضاً إشارة دائمة لموضوع العهد بين الرجل والمرأة. إنّها لمفارقة إذا ما اعتبرنا المأساة التي يشير اليها من جديد سفر التكوين والعودة الواضحة اليه في كتب الأنبياء، وكذلك المزج بين القدسيّات والجنس في الديانات المجاورة لإسرائيل. إنما لا غنى عن هذه الرمزيّة لكي نفهم الطريقة التي بها يحبّ الله شعبه. فقد علّم الله شعبه انّه الزوج الذي يحبّ اسرائيل زوجته.
فإن كانت هذه العلاقة تصوّر الله «إلهاً غيوراً» (خر 20/5؛ غ 1/2) وتتّهم اسرائيل كزوجة «زانية» (هو 2/4-15؛ حز 16/15-34)، فذلك ان هناك رجاء، يشجعّه كلام الأنبياء، بأن تصبح أورشليم الجديدة الزوجة المثاليّة: «فكما ان شاباً يتزوّج بكراً، كذلك يتزوّجونك وكسرور العريس بالعريس يسرّ بك إلهك» (إش 62/5). يعود فيخلق «بالبرّ والحقّ والرأفة» (هو 2/21) تلك التي كانت أعرضت عنه تبحث عن الحياة والسعادة لدى الآلهة الكذبة والتي يكلّم قلبها «تجيبه كما في أيّام شبابها (هو 2/17) وتسمعه يقول لها: «زوجك هو خالقك» (اش 54/5). هذا ما يتأكّد بالتمام عندما، بمؤازرة سرّ العمل الذي يحقّقه الله من خلال وجه المخلّص المتألّم الذَكَر، يذكر سفر إشعيا الوجه الأنثوي لصهيون المزيّنة بالتنزيه وبقداسة تنبىء بعطية الخلاص المحفوظة لإسرائيل.
وسفر نشيد الأناشيد يمثّل دون شكّ زمناً مميّزاً في استعمال طريقة الوحي هذه، إذ بكلام الحب البشري الذي يمتدح جمال الجسد وسعادة البحث المتبادل، يعبّر عن حبّ الله لشعبه. فلم تخطأ الكنيسة التي اعترفت بسرّ علاقتها بالمسيح عندما تكلّمت بجرأة وباستعمال العبارات ذاتها على أهمّ ما هو انساني وما هو إلهي.
على مدى العهد القديم ترتسم صورة خلاص يلتقي فيها، في الوقت معاً، المذكّر والمؤنّث. كلمات «زوج» و«زوجة» و«عهد» حيث تظهر دينامية الخلاص، وإن كانت ذات معاني مجازيّة واضحة، هي أكثر بكثير من مجازات. هذه التعابير الزوجيّة تدلّ على طبيعة العلاقة التي يقيمها الله مع شعبه، وإن كانت هذه العلاقة أشمل ممّا يمكن اختباره في العلاقة الزوجية البشريّة. والظروف الواقعية للفداء هي ايضاً معنيّة في الطريقة التي يستعملها الأنبياء أمثال إشعيا إذ يدمجون الأدوار الذكريّة والأنثويّة في التبشير بعمل الخلاص وفي التنبوّء عليه، هذا العمل الذي يستعدّ الله لإتمامه. وهذا الخلاص يوجّه القارىء إمّا إلى وجه خادم الله المتألّم المذكّر، إمّا إلى وجه صهيون الأنثوي. فعلاً إن تنبّؤات اشعيا ترسم تباعاً هذا الوجه الأخير مع وجه خادم الله، قبل أن تبلغ ذروتها في خاتمة الكتاب برؤية أورشليم السرّيّة التي تلد شعباً كاملاً في يوم واحد (اش 66/7-14). إنّها النبؤة بجديد الله العظيم التي يهمّ الله بإعداده (اش 48/6-8). 10. كل هذه التنبؤات تجد تحقيقها في العهد الجديد. فمريم، كونها ابنة صهيون، تختصر وتجسّد سلفاً في انوثتها وضع اسرائيل العروس المنتظرة يوم الخلاص، من جهة. ومن جهة ثانية، ذكورة الابن تحمل على فهم كيف انّ يسوع يجمع في شخصه كل ما كانت رمزيّة العهد القديم قد نسبته إلى حبّ الله لشعبه وتصفه كحب العريس لعروسه. فوجها يسوع ومريم امه لا يؤكّدان فقط على التواصل بين العهد القديم والجديد، بل يتجاوزان العهد القديم، وذلك لأنه بيسوع المسيح سيّد «الجديد كلّه»[13] كما يقول القديس ايريناوس.
هذا الجانب يوضحه بنوع خاص إنجيل يوحنا. في حادثة قانا الجليل، فسال يسوع أمّه، المدعوّة «امرأة» أن يقدّم الخمرة الجديدة كعلامة لعرسه الآتي مع البشريّة (يو 2/1-12). هذا العرس المسيحاني يتحقّق على الصليب حيث، بحضور امه التي يدعوها «امرأة»، فسيسيل من قلبه المصلوب والمفتوح الدم/الخمر دم العهد الجديد (يو 19/25-34)[14]. فلا عجب إذن إن كان يوحنا المعمدان، عندما سألوه عن هويّته، صرّح بأنّه «صديق العريس» الذي يفرح عند سماع صوت العريس والذي عليه أن يتوارى عند مجيء العريس: «العريس هو الذي له العروس، أمّا صديق العريس فهو هنا، يسمع صوت العريس فيمتلىء فرحاً. هذا هو فرحه وهو ملآن منه. فعلى العريس أن يزداد وعلّي أن أنقص» (يو 3/29-30)[15].
وإبّان نشاطه الرسولي، يتوسّع القديس بولس في معنى الفداء الزوجي، معتبراً الحياة المسيحيّة سرّاً زوجيّاً. فيكتب الى كنيسة أهل قورنتس التي أسّسها «اني أشعر بحبّ غيور، هو حبّ الله ذاته لكم. فأنا جمعتكم بالعريس الوحيد: أنتم العروس العذراء والمقدّسة التي قدّمتها للمسيح» (2 قو 11/2).
وفي الرسالة الى أهل أفسس يعود فيستعمل صورة العلاقة الزوجيّة بين المسيح والكنيسة ويعمّقها. ففي العهد الجديد، الزوجة المحبوبة هي الكنيسة. هذا ما يعلّمه الأب الأقدس في رسالته الى الأسر: «هذه العروس، التي تتكلّم عليها الرسالة إلى أهل أفسس، حاضرة في كل معمَّد وهي كشخص يمثل أمام عريسه» لقد أحبَّ الله الكنيسة وبذل نفسه عنها وقدّمها له كلّها جمال لا عيب فيها ولا غضن ولا شيء يشبه ذلك بل مقدسة وبغير عيب» (أف 5/25-27)[16].
وعندما يتأمّل الرسول باتحاد الرجل والمرأة، كما هو موصوف ساعة خلق العالم (تك 2/24)، يعلن: «انّ هذا السرّ لعظيم؛ أقول هذا بالنسبة إلى المسيح وكنيسته» (أف 5/32). حب الرجل والمرأة، إذا عيش بحسب حياة العماد، يصبح آنذاك حب المسيح والكنيسة؛ انّها شهادة لسرّ الأمانة والوحدة الذي منه تولد «حواء الجديدة» والذي تعيش منه حواء هذه طوال مسيرتها على الأرض، بانتظار ملء العرس الأبدي.
11. إنّ الأزواج المسيحيين، وقد اندمجوا في السرّ الفصحي، أصبحوا علامة لحب المسيح والكنيسة، جدّدوا قلوبهم وأضحوا قادرين على التخلّص من العلاقات المتأتّية عن الشهوة وعن الميل للتسلّط اللذين كان افتراقهما عن الله قد أدخلها في حياة الأزواج الأوّلين بسبب الخطيئة. بالنسبة إلى الزوجين، إن جودة الحب، التي بقيت الرغبة البشريّة تحنّ إليها بعد جرحها بالخطيئة، تظهر بإمكانيّات وتعابير جديدة.
إنطلاقاً من هذا النور، وأمام السؤال حول الطلاق (متى 19/3-9)، استطاع يسوع أن يذكّر بمتطلّبات العهد بين الرجل والمرأة كما كان الله قد أرادها منذ البدء، أي قبل ظهور الخطيئة التي أعطتها شريعة موسى تبريراً للتسويات. وكلمة يسوع، بدل أن تكون فرض أوامر قاسية ومتصلّبة، هي حقّاً بشارة «خبر سارّ»: أي بشرى بالأمانة التي هي أقوى من الخطيئة. وبفضل القيامة، يصبح ممكن لدى الزوجين انتصار الأمانة على الضعف وعلى الجراح الناتجة عن الخطايا. وبنعمة المسيح التي تجدّد قلبيهما، يصبح الرجل والمرأة قادرين على التحرّر من الخطيئة وعلى تذوّق الفرح المتبادل.
12. «أنتم جميعاً الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح... لم يعد هناك لا رجل ولا امرأة» (غل 3/27-28). لا يعلن الرسول هنا ان التمييز بين الرجل والمرأة قد زال وهو الذي في مكان آخر يؤكد انّ هذا التمييز يعود الى تصميم الله. فهو بالأحرى يعني: في المسيح يمكن تذليل التنافس والعداوة والعنف التي كانت تشوّه علاقة الرجل والمرأة وانّها قد ذلّلت فعلاَ. بهذا المعنى فالتمييز بين الرجل والمرأة، الذي يرافق فعلاً كل الوحي الكتابي، هو شيء مؤكّد إلى الأبد.
في نهاية تاريخنا الحاضر، وبينما تبرز في رؤيا يوحنا «سماء جديدة وأرض جديدة» (رؤ 21/1)، نرى ان أورشليم هي أنثى «مزيّنة كخطيبة لعريسها» (رؤ 21/2) والوحي ذاته ينتهي مع كلام العروس والروح وهما يدعوان العريس: «تعال، ايها الربّ يسوع» (رؤ 22/20).
وهكذا يبدو المذكّر والمؤنّث كجزء لا يتجزّا من الخليقة؛ إذن هما مدعوّان الى الدوام بعد هذا الزمن، تحت شكل متجلٍّ. وهكذا يعطيان الحب الطابع الذي «لا يزول أبداً» (1 قو 13/8) حتى ولو بطل التعبير الزمني والأرضي عن الميل الجنسي الآخذ شكل حياة مطبوعة بالولادة والموت. والبتوليّة المكرّسة لأجل الملكوت لتكون نبؤة لهذا الشكل من الحياة، التي وان ظلّت حياة رجل وامراة، لا تعود خاضعة للحدود الحاضرة للحياة الزوجيّة (متى 22/30). من جهة ثانية، للذين يعيشون الحياة الزوجيّة، تصبح هذه الحالة تذكيراً ونبؤة لنهاية علاقتهما في رؤية الله وجهاً لوجه.
3- وضع القيم النسائيّة في حياة المجتمع:
13. بين القيم الأساسيّة المتعلّقة بحياة المرأة العمليّة هناك ما يسمّونه «أهليّتها نحو الآخر». فهي تحتفظ بحدس عميق بأن أفضل ما في حياتها مؤلّف من أنشطة موجّهة الى إيقاظ الآخر ونموّه وحمايته، بالرغم من ان بعض الحديث عن المرأة يطالب بأن «تحيا لذاتها».
هذا الحدث هو رهن قدرتها الجسديّة لإعطاء الحياة. أعاشت هذه القدرة بالفعل أو امتلكتها بالقوّة، إنها حقيقة تبني شخصيّة المرأة بعمق؛ تسمح لها بأن تبلغ نضجها باكراً وتعطيها الشعور بقيمة الحياة والمسؤولياّت المناطة بها. وهذا ينمي لديها أيضاً معنى الأشياء الوضيعة واحترام، تلك التي تعارض التعلّق بالمطلق الذي كثيراً ما يقتل، في حياة الفرد والمجتمع. وهو الذي، حتى في الحالات الميؤوس منها، - والتاريخ الماضي والحاضر شاهدين على ذلك – يعطي قدرة فريدة لمواجهة المخاطر ويجعل الحياة ممكنة في اشدّ الظروف صعوبة ويحافظ بعناد على الإحساس بالمستقبل ويذكّر، من خلال الدموع، بقيمة الحياة البشريّة. وكون الأمومة عاملاً إنسانيّا لهويّة المرأة لا يسمح مطلقاً بألاّ ننظر إلى المرأة إلاّ بالنسبة للولادة الجسديّة. قد يكون هناك مبالغات كبرى تمجّد الخصب البيولوجي بعبارات تقدّس نشاط القوى الحيويّة وكثيراً ما تتطوّر إلى احتقار للمرأة مخيف. وجود دعوة مسيحيّة للبتوليّة هو جرأة بالنسبة الى تقليد العهد القديم كما بالنسبة الى الكثير من المجتمعات البشريّة؛ وهذا كبير الأهميّة[17]. إذ يكوّن اعتراضاً جذريّاً لكل من يدّعي حبس المرأة في مصير بيولوجي محض. وكما ان البتوليّة تتلقّى من الأمومة الجسديّة تذكيراً بأن لا دعوة مسيحية إلاّ في بذل الذات الفعلي نحو الآخر، كذلك فالأمومة الجسديّة تتلقّى من البتوليّة تذكيراً ببعدها الروحي؛ أي ان الإكتفاء بالحياة الجسديّة لا يخوّلنا القول بأننا ولدنا الآخر حقّاً. أي ان الأمومة تستطيع أن تجد أشكالاً للتكامل التام حتى وإن لم يكن هناك ولادة جسديّة[18].
من هذا المنظور نفهم دور المرأة على كل اصعدة الحياة العائليّة والاجتماعيّة التي تتضمّن علاقات انسانيّة واهتماماً بالآخر. هنا تظهر بوضوح ما يسميّه يوحنا بولس الثاني «عبقريّة المرأة»[19]. وهذا يتضمّن أولاً أن تكون النساء حاضرات بنوع فعّال وأن يبرهنّ عن حزم في العائلة. «هذا المجتمع الأولي والرئيسي»[20]. إذ هنا يتبلور بنوع أساسي وجه الشعب. هنا يكتسب أعضاء العائلة المكتسبات الأساسيّة. يتعلّمون أن يحبّوا إذ هم محبوبون مجاّناً؛ يتعلّمون أن يحترموا كل شخص آخر إذ هم محترمون، يتعلّمون أن يتعرّفوا إلى وجه الله بقبول أول اكتشاف في وجه أب وأمّ ينتبهان إليهم. وكلّ مرّة تغيب هذه الاختبارات الأساسيّة، فالمجتمع بأسره يتألّم من العنف الذي يوكّد بدوره أنواعاً من العنف عديدة. هذا يتضمّن أيضاً أن يكون للمرأة حضور في عالم العمل وفي مسؤولياّت المجتمع وان تتسلّم وظائف ومسؤوليّات في ابداء الراي في سياسات الأمم وتقديم حلول جديدة للمشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
بهذا الخصوص لا ننسَ ان التوفيق بين النشاطين – عائلة وعمل – يأخذ في حياة المرأة مناحي غير التي يأخذها في حياة الرجل. فالمشكلة هي إيجاد التناغم بين شريعة العمل وتنظيمه من جهة ومتطلّبات المرأة العائلية من جهة ثانية. فليست المشكلة محض قانونيّة ولا اقتصاديّة ولا تنظيميّة، بل قضيّة ذهنيّة وثقافة واحترام. وهذا يتطلّب ضرورة تقويماً عادلاً للعمل الذي تقوم به المرأة داخل البيت. فباستطاعة النساء، لو اردن ذلك بكل حريّة، أن يكرّسن وقتهنّ للاهتمام بالمنزل بدون أن يفقدن قيمتهنّ اجتماعيّاً ولا أن يُعاقَبنَ اقتصاديّاً. بينما اللواتي يرغبن في نشاطات أخرى، يستطعن الحصول عليها في أوقات مناسبة بدون أن يرين ذواتهنّ مجبرات على اختبار التضحية بالعائلة أو الخضوع لضغط يوميّ لا ييسرّ لهنّ الاتّزان الشخصي ولا التناغم العائلي. يقول يوحنا بولس الثاني: «انّ شرف المجتمع هو أن ييسرّ للمرأة- بدون إعاقة حريتها وبدون تمييز تقني أو عملي وبدون أن تعاقب بالنسبة إلى سائر النساء – إمكانيّة الإهتمام بالأولاد والتكرّس لتربيتهم بحسب حاجات سنّهم المختلفة»[21].
14. فمن المناسب مع ذلك أن نذكّر بالقيم الأنثويّة التي أشرنا إليها والتي هي قبل كل شيء قيم انسانيّة. فوضع الرجل والمرأة الإنساني، وقد خلقا على صورة الله، هو وضع واحد لا يتجزأ. انّما لأنّ النساء أكثر ائتلافاً مباشرة مع هذه القيم، فباستطاعتهنّ أن يذكّرن بها وأن يكنّ لها العلاقة المميّزة. لكن، بعد البحث والتدقيق، كل كائن بشريّ، رجل وامرأة، مُعدّ أن يحيا «للآخر». من هنا فانّ ما يسمىّ انوثة هو أكثر من صفة للجنس الأنثوي، إذ الكلمة تعني القدرة الانسانيّة الأساسيّة للعيش للآخر وبفضل الآخر.
ترقّي المرأة وسط المجتمع يجب أن يُفهم وأن يُراد به نوع من الأنسنة تتحقّق بواسطة قيم أعيد اكتشافها بفضل المرأة. كلّ نظرة تريد أن تكون نظرة إلى النزاع بين الجنسين إن هي سوى خديعة وفخّ؛ ولا تؤدّي إلاّ إلى أوضاع تمييزيّة ومنافسة بين الرجال والنساء وإلى تشجيع أحاديّة تتغذّى بنظرة خاطئة إلى الحريّة.
دون أن نعاكس الجهود الآيلة إلى تنمية الحقوق التي تستطيع النساء أن تصبو إليها في المجتمع والعائلة، ترمي هذه الملاحظات بالأحرى إلى تصحيح النظرة التي تعتبر الرجال أعداء يجب التغلّب عليهم. كما ان العلاقة بين الرجل والمرأة لا تستطيع أن تدّعي أنّها تجد شكلها الخارجي الصحيح في نوع من المواجهة المرتابة والدفاعيّة. يجب أن تُعاش هذه العلاقة في سلام الحب المتبادل وسعادته.
وبأكثر واقعية، إذا كان على السياسات الاجتماعيّة – حول التربية والعائلة والعمل والوصول الى الخدمات والمشاركة في الحياة المدنيّة – أن تحارب كل تمييز جنسي ظالم من جهة، فعليها من جهة ثانية أن تعرف أن تصغي إلى طموحات كل واحد وان تكتشفها. فالدفاع عن المساواة في الكرامة ونموّها وعن القيم الشخصيّة المشتركة يجب أن يتناغم والإعتراف الواعي بالفروقات وبالتبادل حيث يتطلّب ذلك تحقيق الخصوصيّات الإنسانيّة لكل واحد، ذكريّة كانت أم انثويّة.
4- وضع القيم النسائيّة في حياة الكنيسة:
15. ميزة المرأة، في نظر الكنيسة، هي أساسيّة وخصبة اليوم أكثر من كل وقت آخر. هذا يتأتّى من هويّة الكنيسة بالذات، هذه الهويّة التي قبلتها المرأة من الله في الإيمان. هذه الهويّة «السريّة» والعميقة والجوهريّة هي التي يجب أن نفكّر فيها عندما نتأمّل بأدوار الرجل والمرأة المتكاملة في الكنيسة.
منذ الأجيال المسيحيّة الأولى، اعتبرت الكنيسة ذاتها جماعة ولدها المسيح وهي متّحدة به بعلاقة حبّ تعبّر عنها أفضل تعبير صورة الزواج. من هنا أنّ واجب الكنيسة الأوّل هو أن تظلّ في حضرة حبّ الله هذا الذي ظهر في المسيح وان تتأمّل فيه وتحتفل به. يكوّن وجه مريم في الكنيسة، في هذا المجال، المرجع الأساسي. وان استعملنا استعارة، يمكننا القول ان مريم الحاضرة في الكنيسة تقدّم المرآة التي تتعرّف فيها الكنيسة على هويّتها واستعدادات قلبها والمواقف والحركات التي ينتظرها منها الله.
حياة مريم كلّها دعوة للكنيسة لكي تجذّر كيانها في سماع كلمة الله وتقبّلها، إذ ليس الإيمان بحث عن الله بقدر ما هو تعرّف الإنسان على أنّ الله آتٍ اليه، يفتقده ويكلّمه. هذا الإيمان، حيث «لا شيء مستحيل عند الله» (تك 18/14؛ لو 1/37)، يعاش ويتعمّق في الطاعة المتواضعة والمحبّة التي بها تعرف الكنيسة ان تخاطب الآب «فليكن لي بحسب قولك» (لو 1/38). فالإيمان يوجّهنا دوماً إلى المسيح - «اصنعوا ما يأمركم به» (يو 2/5) ويرافقه على الطريق حتى اقدام الصليب. وسط الظلمات الدامسة، تحافظ مريم على أمانتها بشجاعة تسندها فقط الثقة بكلمة الله.
وتتعلّم الكنيسة دوماً من مريم أن تعرف المسيح معرفة حميمة. مريم، التي حملت على ذراعيها طفل بيت لحم، تعلّمنا أن نعرف تواضع الله اللامحدود. هي، التي حملت جسد يسوع المتألّم المنزل عن الصليب، تدلّ الكنيسة كيف تحتمل كل أنواع الحياة التي، في عالمنا، تشوّهت بالعنف والخطيئة. من مريم تتعلّم الكنيسة معنى قوّة الحبّ كما ينشرها الله ويظهرها في حياة ابنه الحبيب بالذات «فرّق المتكبّرين – ورفع المتواضعين» (لو 1/51-52). ومن مريم أيضاً يتعلّم تلاميذ المسيح معنى المديح وتذوّقه تجاه عمل يدي الله: «قدرته صنعت بي عظائم» (لو 1/49) كما يتعلّمون أنّهم في العالم لكي يذكروا «عزائمه» ولكي يسهروا بانتظار يوم الرب.
16. أن ننظر إلى مريم ونتأمّل فيها لا يعني أن ندع الكنيسة تعيش في سلبيّة ناتجة عن نظرة بالية للأنوثة وأن نعرّضها لجراح خطرة في عالم يعتمد بخاصّة على التسلّط والقوّة. والواقع انّ طريق المسيح ليس طريق تسلّط (في 2/6)، ولا طريق قوّة كما يفهمها العالم (يو 18/36). بإمكاننا أن نتعلّم من ابن الله ان هذه السلبيّة هي في الواقع طريق للحبّ؛ انّها طريق ملوكي ينتصر على كلّ عنف؛ «انّها ألم» يخلّص العالم من الخطيئة والموت ويخلق الإنسانيّة من جديد. عندما استودع المصلوب الرسول يوحنا أمّه دعا الكنيسة إلى أن تتعلّم من مريم سرّ الحبّ المنتصر.
وعوض من أن يعطي الكنيسة هويّة مبنيّة على مثال نسبي للأنوثة، أي التمثّل بمريم وجهوزتها للسماع والتقبّل والتواضع والأمانة والمديح والإنتظار، فهو يضعها في تواصل مع تاريخ اسرائيل الروحي. هذه المواقف تصبح مع يسوع وبه، دعوة كلّ معمَّد. بمعزل عن هذه الظروف والحالات الحياتيّة والدعوات المختلفة، ومع مسؤوليّات عامّة أو بدونها، هذه المواقف تحدّد مظهراً جوهريّاً من مظاهر الحياة المسيحيّة. كذلك إذا كان الحال يتعلّق بمواقف تخصّ كلّ معمَّد، يعود بطريقة مميّزة للمرأة أن تحياها بقوّة وبطبيعيّة. وهكذا فللنساء دور ذو أهميّة كبرى في حياة الكنيسة إذ تذكّر سائر المؤمنين بهذه المواقف وتساهم بطريقة فريدة بإظهار وجه الكنيسة الحقيقي، اي عروس المسيح وأمّ المؤمنين.
من هذا المنظور، نفهم أيضاً كيف انّ كهنوت الخدمة المحفوظ للرجل فقط[22] لا يمنع النساء مطلقاً من الوصول إلى صميم الحياة المسيحيّة. فهنّ مدعوّات ليكنّ نماذج لجميع المسيحييّن وشهوداً لا غنى عنهم بما يتعلّق بالزوجة التي تبادل حبّ زوجها بالحبّ.
خاتمة:
17. بالمسيح يسوع يصبح كلّ شيء جديد (أع 21/5). ومع ذلك يستحيل التجدّد بالنعمة من دون ارتداد القلب. المطلوب، ونحن ننظر إلى يسوع ونعترف به ربّاً، أن نتعرّف إلى طريق الحبّ المنتصر على الخطيئة الذي يعرضه الرب على تلاميذه.
هكذا تتحوّل علاقة الرجل والمرأة. والشهوة المثلّثة التي تتكلّم عليها رسالة يوحنا الأولى (را 2، 16) لا يعود بوسعها أن تنتصر. المطلوب هو ان نتقبّل الشهادة التي تعطيها حياة النساء ككشف عن قيم بدونها تنغلق البشريّة على ذاتها باكتفاء ذاتي، في أحلام السلطة وفي فخّ العنف. وعلى المرأة بدورها أن تستسلم للإرتداد وأن تتعرّف على قيم فريدة وفعّالة بتمييز لمحبّة القريب التي تحملها انوثتها. وفي الحالتين، المطلوب هو ارتداد البشريّة الى الله «كعون» لها، كخالق كلّه حنان وكفادٍ «أحبّ العالم إلى حدّ أنّه أعطى ابنه الوحيد» (يو 3/16).
وهذا الإتّحاد لا يتمّ إلاّ في صلاة متواضعة لننال من الله نفاذ البصر الذي يجعلنا نرى خطيئتنا وفي الوقت عينه النعمة الشافية. يجب بخاصة أن نلتمس معونة العذراء مريم، المرأة بحسب قلب الله «والمباركة بين جميع النساء» (لو 1/42) التي اختارها الله لكي تكشف للبشريّة، رجالاً ونساءً، طريق الحبّ. هكذا فقط يمكن أن تظهر في كلّ رجل وكلّ امرأة، ولكلّ بحسب النعمة المعطاة له، «صورة الله» التي هي الرسم المقدّس الموسمون به (تك 1/27). هكذا فقط نستطيع أن نجد طريق السلام والدهشة التي يشهد لها التقليد الكتابي من خلال آيات نشيد الأناشيد حيث الأجساد والقلوب تحتفل بنشيد التهليل ذاته.
لا شكّ أنّ الكنيسة تعرف قوّة الخطيئة التي تعمل في الأفراد والمجتمعات والتي في بعض الأحيان قد تحمل على اليأس من صلاح الزوجين. إنّما بإيمانها بالمسيح المصلوب والقائم من الموت تعرف قوّة المسامحة وبذل الذات بالرغم من كلّ الجروح ومن كلّ ظلم. السلام والتعجّب التي يدلّ إليهما الرجال والنساء اليوم هما سلام وتعجّب بستان القيامة التي أنارت عالمنا وكلّ تاريخه إذ كشفت عن «ان الله محبة» (1 يو 4/8، 6).
في المقابلة الممنوحة للكردينال رئيس المجمع الممضي اسمه أدناه، أقرّ الحبر الأعظم هذه الوثيقة المقرّرة في جلسة عاديّة لمجمع العقيدة والإيمان وأمر بنشرها.
أعطيت في روما، مقر مجمع العقيدة والإيمان في 31 ايار 2004 في عيد زيارة الطوباوية مريم العذراء.
أنجلو أماتو الكردينال جوزيف رتزنغر
رئيس اساقفة سيلا شرفاً رئيس
أمين سرّ
1 يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي «الجماعة العائلية» (22 تشرين الثاني 1981، أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982) ص81-91. الوثائق الكاثوليكية 79 (1982) ص1-37. رسالة رسولية كرامة المرأة (15 آب 1988؛ أعمـال الكرسي الرسولي (1988) ص1653-1729. الوثائق الكاثوليكية 85 (1988) ص1063-1100. رسالة الى الأسر (2 شباط 1994): أعمال الكرسي الرسولي ص 868-925؛ الوثائق الكاثوليكيـة 91 (1994) ص 251-277؛ رسالة الى النساء (29 حزيران 1995) ص 803-912، الوثائق الكاثوليكية 92 (1995) ص 717-722؛ كرازات في الحب البشري (1979-1984): تعاليم II (1978)، VII (1984): الجسم والقلب والروح، على صورة الله. رجل وامرأة. قراءة في سفـر التكوين 1-3، باريس، منشورات لوسارف (1983) والجسم والقلب. على صورة الله. رجل وامرأة قراءة في انجيل متى 5/27-28 باريس لوسارف (1984). مجمع التربية الكاثوليكية: توجيهات تربوية في الحب البشري. خطوط في التربية الجنسية (1 تشرين الثاني 1983): تعليم الفاتيكان المختصر ص 420-456؛ الوثائق الكاثوليكية 81 (1984) ص 16-29؛ المجلس الحبري للعائلة، حقيقة ومعنى الجنس البشري. توجيهات للتربية العائلية (8 كانون الأول 1995)؛ تعليم الفاتيكان المختصر 14، ص 2008-2077؛ الوثائق الكاثوليكية 93 (1996) ص 207-235.
2 حول قضية الجنس المعقّدة، راجع المجلس الحبري للعائلة؛ العائلة والزواج و«قرانات الأمر الواقع» (21 تشرين الثاني 2000)، عد 8: الوثائق الكاثوليكية 98 (2001) ص 163-164.
3 يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة: الإيمان والعقل (14 ايلول 1998) عد 21، أعمال الكرسي الرسولـي 91 (1999) ص 22 الوثائـق الكاثوليكيـة 95 (1998) ص 909: «هذا الإنفتاح على السرّ، الذي ناله من الوحي، أصبح له في نهاية الأمر ينبوع معرفة حقيقية سمحت لعقله أن يلتزم في مجالات لامحدودة، ما أعطاه فهماً غير منتظر الى اليوم».
4 يوحنا بولس الثاني، رسالة رسولية، كرامة المرأة (15 آب 1988) عد 6. أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 662؛ الوثائـق الكاثوليكيـة 85 (1988) ص 1066؛ القديس ابريانوس، ضد الهرطقات 5، 6، 1؛ 6، 16، 2-3. SCh 53، ص 72-81؛ ص 216-221؛ القديس غريغوريوس النيصي، عمل الإنسان، عد 16. أباء يونانيون 44، ص 805-808؛ القديس اغسطينوس، شرح المزامير، عد 4، 8: CCL 38، 17.
5 الكلمة العبريّة عزر المترجمة بعون تدل على المساعدة التي وحده الإنسان يستطيع أن يؤدّيها لإنسان آخر. لا تتضمّن الكلمة أي مفهوم محقِّر أو يجعل من الإنسان آداة، عندما نفكّر ان الله ذاته مدعو أحياناً عزر نحو الإنسان (خر 18/4؛ مز 9/10،53).
6 يوحنا بولس الثاني، رسالة رسولية، كرامة المرأة (15 آب 1988) عد 6. أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 166. الوثائـق الكاثوليكيـة 85 (1988) ص 1067.
7 يوحنا بولس الثاني، كرازة: العطاء في حريّة الحبّ (16 كانون الثاني 1980): تعليم III، 1 (1980)، ص 148؛ الوثائق الكاثوليكية 77 (1980) ص 162.
8 يوحنا بولس الثاني، كرازة في الشهوة والعلاقات بين الرجل والمرأة (23 تموز 1980)، عد 1: تعليـم III، 2 (1980)، ص 288؛ الوثائـق الكاثوليكيـة 77 (1980) ص 810.
9 يوحنا بولس الثاني، رسالة رسولية، كرامة المرأة (5 آب 1988) عد 7: أعمال الكرسي الرسولـي (1988) ص 1666؛ الوثائـق الكاثوليكيـة 85 (1988) ص 1068.
10المرجع ذاته، أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، ص 1663؛ الوثائق الكاثوليكية 85 (1988) ص 1067.
11 مجمع التربية الكاثوليكيّة، توجيهات تربويّة حول الحبّ البشري (1 تشرين الثاني 1983) عد 4-5. مختصر التعليم الفاتيكاني 9، ص 423؛ الوثائق الكاثوليكية 81 (1984) ص 16.
12 المرجع ذاته.
13 ضد الهرطقات،4، 34، 1:SCh 100، ص 846: «حمل كلّ جديد وهو يحمل ذاته»
14 تقليد الشروع القديمة ترى في مريم في قانا «صورة المجمع اليهودي وبدء الكنيسة».
15 يتعمّق الانجيل الرابع هنا معطى موجود لدى الإزائيّين (متى 9،15 و...).حول موضوع يسوع زوج، راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة الى الأسر (2 شباط 1994) عد 18: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994) ص 906-910. الوثائق الكاثوليكية 91 (1994) ص 251-277.
16 يوحنا بولس الثاني، رسالة الى الأسر (2 شباط 1994) عد 19: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994) ص 911؛ الوثائق الكاثوليكية 91 (1994)، ص 270؛ راجع كرامة المرأة (15 آب 1988)، عد 23-25: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 1708-1715؛ الوثائق الكاثوليكية 85 (1988) ص 1081-1083).
17 يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي «الجماعة العائلية»(22 تشرين الثاني 1981)، عد 16. أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، ص 98-99؛ الوثائق الكاثوليكية عد 79 (1982)، ص 6.
18 المرجع ذاته عـد 41: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، ص 132-133؛ الوثائق الكاثوليكيّة 79 (1982)، ص 16. مجمع العقيدة والإيمان، تعليم «الحياة هبة الله» (22 شباط 1987)، 11، 8: أعمال الكرسي الرسولي (1988)، ص 96-97؛ الوثائق الكاثوليكيّة 84 (1987)، ص 359.
19 يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى النساء، (29 حزيران 1995)، عد 9-10: أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، ص 809-810؛ الوثائق الكاثوليكيّة 92 (1995)، ص 720-721.
20 يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى الأسر (2 شباط 1994)، عد 17؛ أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994)، ص 906؛ الوثائق الكاثوليكيّة 98 (1994)، ص 268.
21 رسالة عامة، العمل البشري (14 ايلول 1981)، عد 19: أعمال الكرسي الرسولي 73 (1981)، ص 627؛ الوثائق الكاثوليكيّة 78 (1981)، 849.
22 يوحنا بولس الثاني، رسالة رسوليّة، الرسامة الكهنوتيّة (22 أيار 1994): أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994)، ص 545-548؛ الوثائق الكاثوليكيّة 92 (1995)، ص 1079-1081. مجمع العقيدة والإيمان، جواب على شكّ حول عقيدة الرسالة الرسوليّة الرسامة الكهنوتيّة (28 تشرين الأول 1995): أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، ص 1114، الوثائق الكاثوليكية 92 (1995)، ص 1079
حول تعاون الرجل والمرأة
في الكنيسة والعالم
مقدمة:
1. ان الكنيسة، وهي الخبيرة في أمور الإنسان، اهتمّت دوماً بشؤون الرجل والمرأة. وفي الآونة الأخيرة، كثر التفكير بكرامة المرأة، بحقوقها وواجباتها في مجالات عدة من الحياة الإجتماعية والكنسية. فبعد ان ساهمت بعمق في هذا الموضوع الأساسي، وبخاصة في تعليم البابا يوحنا بولس الثاني[1]، يوجِّه اليها اليوم بعض التيارات الفكرية، التي غالباً ما لا تتوافق طروحاتها والمنظور الصحيح لترقية المرأة، بعض التساؤلات.
بعد مقدمة قصيرة وتقدير نقدي لبعض النظريات الأنتروبولوجيّة المعاصرة، تبغي هذه الوثيقة ان تعرض افكاراً توحيها معطيات عقائدية للأنتروبولوجيا الكتابية – لا غنى عنها للحفاظ على هوية الشخص البشري – حول بعض افتراضات متأتية عن نظرة صحيحة للتعاون الفعّال بين الرجل والمرأة في الكنيسة والعالم، من خلال الإعتراف بما يميّزهما. من ناحية أخرى، تبغي
هذه الوثيقة ان تكون نقطة انطلاق لمحاولة تعمّق داخل الكنيسة ذاتها ولخلق حوار مع رجال ونساء ذوي ارادة طيبة في بحث صادق عن الحقيقة ولأجل التزام مشترك لنسج علاقات سليمة تزداد مع الأيام.
1- المشكلة:
2. لاحظنا، في هذه السنين الأخيرة، ظهور أميال جديدة لمواجهة قضيّة المرأة. ميل أول يشدّد على وضع تبعيّة المرأة بغاية خلق موقف رفض. فلكي تثبت هويّتها، تنصّب المرأة ذاتها منافسة للرجل. في مواجهة تجاوز الرجل لحقوقه تردّ بسياسة التماس السلطة. تؤدي هذه الطريقة الى منافسة بين الجنسين تتحقّق هوّية الواحد ودوره على حساب الآخر، ينتج عن ذلك في الأنتروبولوجيا فوضى قتّالة تظهر نتائجها المباشرة والضارّة في هيكليّة العائلة.
والميل الثاني يظهر في خطّ الميل الأوّل. فلتجنّب كلّ سلطوية لجنس على الآخر، يريدون محو الفروقات التي يعتبرونها كمحض نتائج لوضع تاريخي وحضاري. في هذه المساواة تشديد مبالغ فيه على الفرق الجسدي المدعو جنساً، بينما البعد الثقافي المدعو «نوعاً» يُعتبر أوّليّا. لحجب الفرق أو الثنائيّة الجنسيّة نتائج هامّة على أكثر من صعيد. أنتروبولوجيا كهذه تعمل لغايات تدعو الى مساواة تحرّر المرأة من كل حتميّة بيولوجيّة أدّت عملياً الى ايديولوجيّات تشجعّ مثلا التشكيك في العائلة القائمة على أب وأم، كما انها تضع على ذات المستوى العلاقات المثليّة والعلاقات بين الجنسين، أي الى مثال جديد من العلاقات الجنسيّة المتعددة الأوجه.
3. يجد هذا الميل جذوره المباشرة في اطار قضيّة المرأة، بينما مسبّباته العميقة يجب البحث عنها في محاولة الشخص البشري التحرّر من أوضاعه البيّولوجيّة[2]. بحسب هذه النظرة البيولوجيّة، لا يكون للطبيعة البشريّة خواص في ذاتها تفرض نفسها بطريقة مطلقة: باستطاعة كل فرد وعليه أن يقرّر ما يريد أن يكون، وذلك بإرادته، إذ يصبح حرّا من كل حتميّة مرتبطة بطبيعته الإنسانيّة.
لهذه النظريّة نتائج عدة. فهي تأخذ بالقول بأن تحرير المرأة ينطوي على نقد للكتاب المقدّس الذي يحمل، كما يظنّون، نظرة ذكوريّة لله، نظرة تشجعّها ثقافة ذكوريّة لله، نظرة تشجعّها ثقافة ذكوريّة في الأساس. من جهة أخرى يعتبر هذا الميل أنّ كونَ ابنِ الله الذي اخذ الطبيعة البشريّة ذكرا، أمر غير ذي أهميّة وبدون أي تأثير.
4. تجاه هذه التيّارات الفكريّة، فالكنيسة وقد استنارت بإيمانها بيسوع المسيح، تتكلّم على مساهمة فعّالة بين الرجل والمرأة وبخاصّة في ما يتعلّق بالاعتراف بما يميّزهما.
لكي نفهم أساس ومعنى ونتائج هذا الجواب، يحسن بنا أن نعود، ولو لماما، الى الكتاب المقدّس الغني بالحكمة البشرية حيث ظهر هذا الجواب تدريجيّا بفضل تدخّل الله لصالح البشريّة[3].
2- المعطيات الأساسيّة للأنتروبولوجيا الكتابيّة:
5. تتألّف المجموعة الأولى من النصوص الكتابيّة المعروضة للبحث من الفصول الثلاثة الأولى من سفر التكوين. «تضعنا هذه الفصول في إطار "البدء" الكتابي حيث الحقيقة الموحاة بخصوص الإنسان كصورة الله ومثاله» تؤلّف الأساس غير المتغيّر لكل أنتروبولوجيا مسيحية[4].
في النصّ الأوّل (تك 1/1-2/4) وصف لقدرة كلمة الله الخلاّقة التي تفصل بين عناصر الفوضى الأولى. فيظهر النور والظلام، والبحر واليَبس، والأعشاب والشجر، والأسماك والطيور «بحسب أصنافها». هكذا يولد عالم منظّم إنطلاقاً من فروقات هي من جهة ثانية وفي الوقت معاً وعود بعلاقات. وهكذا يظهر كتصميم أوّلي الإطار العام حيث يبرز مخطط خلق الإنسان. «قال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا، خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، رجلاً وامرأة خلقه» (تك 1/26-27). يصوّر النص البشريّة بتفصيل منذ نشأتها بالنظر للعلاقة بين المذكّر والمؤنّت. وهي هذه البشريّة ذات الجنسين التي يقول عنها النص بصراحة انها «صورة الله».
6. يؤكّد النص الثاني (تك 2/4-25) بدون لبس على أهمية التمييز الجنسي. صوّر الله الإنسان ووضعه في جنة عدن وسلّمه ادارتها. بعد ذلك فالذي كان يُدعى آدم، بكلمة عامة، اختبر وحشة لم يستطع وجود الحيوانات أن يملأها. فهو بحاجة الى عون بازائه؛ لا تعني الكلمة دوراً ثانوياً بل عوناً حياتياً[5]. إذ الغاية هي السماح لحياة آدم ألاّ تضيع في علاقة بالذات فقط، علاقة عقيمة وفي النهاية حاملة الموت. فكان من الضروري أن يدخل بعلاقة مع شخص آخر يماثله. وحدها المرأة، المخلوقة من «اللحم» ذاته، تعطي حياة الرجل مستقبلاً. وهذا يتحقق على صعيد أنتولوجي بمعنى أن خلق المرأة يميّز البشريّة كحقيقة ذات علاقة. وفي هذا اللقاء أيضاً، تبرز الكلمة التي تجعل الرجل يفتح فمه للمرّة الأولى بعبارة الاندهاش: «ها هذه المرة عظم من عظامي ولحم من لحمي» (تك 2/23).
يقول قداسة البابا مستشهداً بنص التكوين هذا، «المرأة هي "أنا" آخر في بشريّتها المشتركة. منذ البدء يبدو [الرجل والمرأة] «كوحدة اثنين» أي ان الوحشة انتفت حين لم يكن للرجل «عون يناسبه» (تك 2/20). هل المراد «عون» للعمل على السيطرة على الأرض فحسب (تك 1/28)؟ كلا بل المراد هو رفيقة حياة يستطيع الرجل أن يتّحد بها ويصير معها «جسداً واحداً ولأجلها «يترك أباه وأمه» (تك 2/24)[6].
الفرق الحياتي موجّه الى الإتحاد وهو يُعاش على نحو هادىء يعبّر عنه موضوع العري: «وكان كلاهما، الرجل والمرأة، عريانين ولم يكونا ليخجلا واحدهما من الآخر» (تك 2/25). وهكذا فالجسد البشري، المطبوع بطابع التذكير والتأنيث، «ينعم منذ البدء بصفة الزوجية أي بإمكانيّة التعبير عن الحبّ؛ هذا الحب ذاته الذي به يصبح الإنسان – الشخص – عطاء، وبهذا العطاء يحقّق معنى كيانه ووجوده»[7]. ويتابع قداسته، وهو يشرح هذه الآيات من سفر التكوين: «بميزته هذه، فالجسد تعبير عن الروح وهو مدعو، في سرّ الخلق بالذات، إلى الوجود في اتحاد الأشخاص "على صورة الله"»[8].
من هذا المنظور الزوجي نفهم المعنى الذي رمى إليه سفر التكوين القائل ان المرأة، في عمق كيانها الأصيل، موجودة للآخر (1 قو11/9). إنه تأكيد لا يلمّح البتّة إلى تنازل عن الحرية، بل يعبّر عن نظرة أساسيّة إلى الشبه مع الثالوث الأقدس حيث الأقانيم، منذ مجيء المسيح، توحي بأنهم في وحدة حب الواحد مع الآخر. «في وحدة الإثنين، الرجل والمرأة مدعوّان منذ البدء ليس فقط للوجود أحدهم بقرب الآخر أو للوجود معاً، بل بوجود أحدهما للآخر،... ونص سفر التكوين 2/18-25 يوحي بأن الزواج هو البعد الأول، وإن صحّ الكلام الأساسي، لهذه الدعوة. لكنه ليس البعد الوحيد. وكل تاريخ الإنسان على الأرض يتحقّق في إطار هذه الدعوة. إنطلاقاً من المبدأ القائل ان كل واحد يعيش "للآخر" في وحدة شخصية، نرى، خلال هذا التاريخ، ان ما هو مذكّر وما هو مؤنّث يندمجان في البشرية بالذات، كما أرادها الله»[9].
هذه النظرة الهادئة، التي يختتم بها نصّ الخلق الثاني، هي صدى لعبارة «جيد جداً» التي بها ينتهي خلق الرجل والمرأة في الفصل الأول. نحن هنا في صلب مخطّط الله الأول وفي صلب الحقيقة الأعمق بما يتعلّق بالرجل والمرأة، كما خطّط الله لهما وخلقهما. ومع ان هذه الترتيبات الأولى قد تشوّشت وتشوّهت بالخطيئة، فهي لا يمكن أن تمّحى أبداً.
7. إن الخطيئة الأصليّة أفسدت طريقة تقبّل كلمة الله وعيشها لدى الرجل والمرأة كما أفسدت علاقتهما بالله. فبعد أن أهداهما الفردوس مباشرة، أعطاهما وصيّة إيجابية (تك 2/16) أتبعها بأخرى سلبيّة (تك 2/17) حيث نجد التأكيد الضمني على الفرق الأساسي بين الله والبشرية. وبوسوسة من الشيطان، راح الرجل والمرأة يشككان بهذا الفرق. وبالنتيجة تشوّشت أيضاً طريقة عيشهما لما يميّزهما جنسيّاً. وهكذا نصّ سفر التكوين يجعل علاقة سببيّة بين ما يفرّقهما؛ لمّا اعتبرت البشريّة الله عدوّاً، تشوّشت العلاقة بين الرجل والمرأة؛ وحين فسدت هذه العلاقة تعرّض للخطر أيضاً الوصول إلى وجه الله.
في الكلمات التي وجّهها الله للمرأة بعد الخطيئة يظهر، بطريقة جليّة لا تقلّ بلاغة عن سواها، نوع العلاقات التي ستقوم من الآن فصاعداً بين الرجل والمرأة: «تقودك أشواقك إلى زوجك وهو يسود عليك» (تك 3/16). وأصبحت العلاقة غالباً ما يكون الحب فيها مشوّشاً ضائعاً في بحث عن الذات، في علاقة تتنكّر للحبّ وتقتله وتُحلّ محلّه نيراً من استعباد جنس للآخر. ويعيد تاريخ البشرية هذه الأوضاع حيث تظهر الشهوة المثلّثة التي يتكلّم عليها القديس يوحنا: شهوة اللحم وشهوة الكبريـاء وشهوة الغنى (1يو2/16). إنه وضع مأساوي تضيع فيه المساواة والإحترام والحب الذي يتطلّب، بحسب قصد الله الأولي، العلاقة بين الرجل والمرأة.
8. إعادة قراءة النصوص الأساسيّة تحمل على إعادة التأكيد على معطيات رئيسيّة للأنتروبولوجيا الكتابيّة.
يجب التشديد أوّلاً على الطابع الشخصي للكائن الإنساني. الإنسان شخص وذلك بالنسبة الى الرجل والمرأة. إذ الإثنان خلقا على صورة الله – الشخص ومثاله[10]. كرامة الأشخاص تتحقّق كتكامل فيزيولوجي وسكولوجي وانتولوجي، ما يؤدي إلى «وحدة بين الإثنين» متناغمة ومنطقيّة بنوع ان الخطيئة وهيكليّة الخطيئة وحدهما القائمين في الثقافة جعلا منها نبع خلاف. توحي الأنتروبولوجيا الكتابيّة بمجابهة المشاكل التي، على الصعيد الخاص والعام، تشكك بالفرق بين الجنسين، وذلك بأعمال تمهيديّة علائقيّة عوض عن المنافسة والمزاحمة.
ينبغي أيضاً الإشارة إلى أهميّة الفرق بين الجنسين وإلى معناه كواقع مطبوع في عمق الرجل والمرأة. «فالميل الجنسي يطبع الرجل والمرأة ليس فقط على الصعيد المادي بل أيضاً على الصعيد السيكولوجي والروحي كما يطبع كل تعابيرهما»[11]. فلا يمكن حصرها بمعطى بيولوجي تافه، بل هو عنصر أساسي للشخصيّة، ونوع من أنواع وجوده وتجلّيه واتصاله بالآخرين وبشعوره وتعبيره عن الحب البشري وعيشه له»[12]. هذه القدرة على الحبّ هي انعكاس لله- المحبة وصورته وتجد أحد تعابيره في خواصّ الجسد الزوجيّة حيث هو منقوش الطابع الذكري أو الأنثوي للإنسان.
ما يهمنا هو البعد الأنتروبولوجي للجنس الذي لا ينفصل عن البعد اللاهوتي. فالمخلوق البشري، في وحدة نفسه وجسده، هو منذ البدء مخلوق لأجل العلاقة بالآخر. وهذه العلاقة تظهر دائماً صالحة ومشوّهة في الوقت معاً. هي صالحة نظراً للصلاح الأصلي الذي أعلنه الله منذ بدء الخليقة. ولكنها أيضاً مشوّهة بسبب فقدان التناغم بين الله والإنسان الذي حصل من جراء الخطيئة. وهذا الفساد لا يتناسب ومخطط الله الأساسي للرجل والمرأة ولا وحقيقة العلاقة بين الجنسين. من هنا ان هذه العلاقة الفاسدة هي بحاجة ألى شفاء. فما عساها تكون طرق الشفاء هذه؟
إن أخذنا وحلّلنا القضايا المختّصة بالعلاقة بين الجنسين من وضع موسوم بالخطيئة فحسب، عدنا حتماً إلى الضلالات التي ذكرنا. فينبغي إذن أن ندع جانباً منطق الحطيئة هذا وأن نبحث عن مخرج يسمح بإلغاء هذا المنطق عن قلب الإنسان الخاطىء. هناك توجيه واضح بهذا الصدد نجده في وعد الله بمخلّص تلتزم به المرأة «ونسلها» (تك 3/15). إنه وعد يتطلّب، قبل أن يتحقّق، تهيئة طويلة الأمد على مدى التاريخ.
9. هناك انتصار أول على الشرّ تمثلّه قصة نوح، الرجل البار الذي، بنعمة الله، نجا من الطوفان مع عائلته وسائر أنواع الحيوانات (تك 6-9). وهناك خاصة اختيار الله لابراهيم ونسله (تك 12/1...) يؤكّد رجاء الخلاص. هكذا راح الله يكشف عن وجهه لكي، من خلال الشعب المختار، تتعلّم البشريّة طريق التشبّه بالله، أي طريق القداسة، طريق تغيير القلب. ومن بين الطرق العديدة التي ظهر بها الله لشعبه (عب 1/1)، من خلال تربية طويلة المدى، هناك أيضاً إشارة دائمة لموضوع العهد بين الرجل والمرأة. إنّها لمفارقة إذا ما اعتبرنا المأساة التي يشير اليها من جديد سفر التكوين والعودة الواضحة اليه في كتب الأنبياء، وكذلك المزج بين القدسيّات والجنس في الديانات المجاورة لإسرائيل. إنما لا غنى عن هذه الرمزيّة لكي نفهم الطريقة التي بها يحبّ الله شعبه. فقد علّم الله شعبه انّه الزوج الذي يحبّ اسرائيل زوجته.
فإن كانت هذه العلاقة تصوّر الله «إلهاً غيوراً» (خر 20/5؛ غ 1/2) وتتّهم اسرائيل كزوجة «زانية» (هو 2/4-15؛ حز 16/15-34)، فذلك ان هناك رجاء، يشجعّه كلام الأنبياء، بأن تصبح أورشليم الجديدة الزوجة المثاليّة: «فكما ان شاباً يتزوّج بكراً، كذلك يتزوّجونك وكسرور العريس بالعريس يسرّ بك إلهك» (إش 62/5). يعود فيخلق «بالبرّ والحقّ والرأفة» (هو 2/21) تلك التي كانت أعرضت عنه تبحث عن الحياة والسعادة لدى الآلهة الكذبة والتي يكلّم قلبها «تجيبه كما في أيّام شبابها (هو 2/17) وتسمعه يقول لها: «زوجك هو خالقك» (اش 54/5). هذا ما يتأكّد بالتمام عندما، بمؤازرة سرّ العمل الذي يحقّقه الله من خلال وجه المخلّص المتألّم الذَكَر، يذكر سفر إشعيا الوجه الأنثوي لصهيون المزيّنة بالتنزيه وبقداسة تنبىء بعطية الخلاص المحفوظة لإسرائيل.
وسفر نشيد الأناشيد يمثّل دون شكّ زمناً مميّزاً في استعمال طريقة الوحي هذه، إذ بكلام الحب البشري الذي يمتدح جمال الجسد وسعادة البحث المتبادل، يعبّر عن حبّ الله لشعبه. فلم تخطأ الكنيسة التي اعترفت بسرّ علاقتها بالمسيح عندما تكلّمت بجرأة وباستعمال العبارات ذاتها على أهمّ ما هو انساني وما هو إلهي.
على مدى العهد القديم ترتسم صورة خلاص يلتقي فيها، في الوقت معاً، المذكّر والمؤنّث. كلمات «زوج» و«زوجة» و«عهد» حيث تظهر دينامية الخلاص، وإن كانت ذات معاني مجازيّة واضحة، هي أكثر بكثير من مجازات. هذه التعابير الزوجيّة تدلّ على طبيعة العلاقة التي يقيمها الله مع شعبه، وإن كانت هذه العلاقة أشمل ممّا يمكن اختباره في العلاقة الزوجية البشريّة. والظروف الواقعية للفداء هي ايضاً معنيّة في الطريقة التي يستعملها الأنبياء أمثال إشعيا إذ يدمجون الأدوار الذكريّة والأنثويّة في التبشير بعمل الخلاص وفي التنبوّء عليه، هذا العمل الذي يستعدّ الله لإتمامه. وهذا الخلاص يوجّه القارىء إمّا إلى وجه خادم الله المتألّم المذكّر، إمّا إلى وجه صهيون الأنثوي. فعلاً إن تنبّؤات اشعيا ترسم تباعاً هذا الوجه الأخير مع وجه خادم الله، قبل أن تبلغ ذروتها في خاتمة الكتاب برؤية أورشليم السرّيّة التي تلد شعباً كاملاً في يوم واحد (اش 66/7-14). إنّها النبؤة بجديد الله العظيم التي يهمّ الله بإعداده (اش 48/6-8). 10. كل هذه التنبؤات تجد تحقيقها في العهد الجديد. فمريم، كونها ابنة صهيون، تختصر وتجسّد سلفاً في انوثتها وضع اسرائيل العروس المنتظرة يوم الخلاص، من جهة. ومن جهة ثانية، ذكورة الابن تحمل على فهم كيف انّ يسوع يجمع في شخصه كل ما كانت رمزيّة العهد القديم قد نسبته إلى حبّ الله لشعبه وتصفه كحب العريس لعروسه. فوجها يسوع ومريم امه لا يؤكّدان فقط على التواصل بين العهد القديم والجديد، بل يتجاوزان العهد القديم، وذلك لأنه بيسوع المسيح سيّد «الجديد كلّه»[13] كما يقول القديس ايريناوس.
هذا الجانب يوضحه بنوع خاص إنجيل يوحنا. في حادثة قانا الجليل، فسال يسوع أمّه، المدعوّة «امرأة» أن يقدّم الخمرة الجديدة كعلامة لعرسه الآتي مع البشريّة (يو 2/1-12). هذا العرس المسيحاني يتحقّق على الصليب حيث، بحضور امه التي يدعوها «امرأة»، فسيسيل من قلبه المصلوب والمفتوح الدم/الخمر دم العهد الجديد (يو 19/25-34)[14]. فلا عجب إذن إن كان يوحنا المعمدان، عندما سألوه عن هويّته، صرّح بأنّه «صديق العريس» الذي يفرح عند سماع صوت العريس والذي عليه أن يتوارى عند مجيء العريس: «العريس هو الذي له العروس، أمّا صديق العريس فهو هنا، يسمع صوت العريس فيمتلىء فرحاً. هذا هو فرحه وهو ملآن منه. فعلى العريس أن يزداد وعلّي أن أنقص» (يو 3/29-30)[15].
وإبّان نشاطه الرسولي، يتوسّع القديس بولس في معنى الفداء الزوجي، معتبراً الحياة المسيحيّة سرّاً زوجيّاً. فيكتب الى كنيسة أهل قورنتس التي أسّسها «اني أشعر بحبّ غيور، هو حبّ الله ذاته لكم. فأنا جمعتكم بالعريس الوحيد: أنتم العروس العذراء والمقدّسة التي قدّمتها للمسيح» (2 قو 11/2).
وفي الرسالة الى أهل أفسس يعود فيستعمل صورة العلاقة الزوجيّة بين المسيح والكنيسة ويعمّقها. ففي العهد الجديد، الزوجة المحبوبة هي الكنيسة. هذا ما يعلّمه الأب الأقدس في رسالته الى الأسر: «هذه العروس، التي تتكلّم عليها الرسالة إلى أهل أفسس، حاضرة في كل معمَّد وهي كشخص يمثل أمام عريسه» لقد أحبَّ الله الكنيسة وبذل نفسه عنها وقدّمها له كلّها جمال لا عيب فيها ولا غضن ولا شيء يشبه ذلك بل مقدسة وبغير عيب» (أف 5/25-27)[16].
وعندما يتأمّل الرسول باتحاد الرجل والمرأة، كما هو موصوف ساعة خلق العالم (تك 2/24)، يعلن: «انّ هذا السرّ لعظيم؛ أقول هذا بالنسبة إلى المسيح وكنيسته» (أف 5/32). حب الرجل والمرأة، إذا عيش بحسب حياة العماد، يصبح آنذاك حب المسيح والكنيسة؛ انّها شهادة لسرّ الأمانة والوحدة الذي منه تولد «حواء الجديدة» والذي تعيش منه حواء هذه طوال مسيرتها على الأرض، بانتظار ملء العرس الأبدي.
11. إنّ الأزواج المسيحيين، وقد اندمجوا في السرّ الفصحي، أصبحوا علامة لحب المسيح والكنيسة، جدّدوا قلوبهم وأضحوا قادرين على التخلّص من العلاقات المتأتّية عن الشهوة وعن الميل للتسلّط اللذين كان افتراقهما عن الله قد أدخلها في حياة الأزواج الأوّلين بسبب الخطيئة. بالنسبة إلى الزوجين، إن جودة الحب، التي بقيت الرغبة البشريّة تحنّ إليها بعد جرحها بالخطيئة، تظهر بإمكانيّات وتعابير جديدة.
إنطلاقاً من هذا النور، وأمام السؤال حول الطلاق (متى 19/3-9)، استطاع يسوع أن يذكّر بمتطلّبات العهد بين الرجل والمرأة كما كان الله قد أرادها منذ البدء، أي قبل ظهور الخطيئة التي أعطتها شريعة موسى تبريراً للتسويات. وكلمة يسوع، بدل أن تكون فرض أوامر قاسية ومتصلّبة، هي حقّاً بشارة «خبر سارّ»: أي بشرى بالأمانة التي هي أقوى من الخطيئة. وبفضل القيامة، يصبح ممكن لدى الزوجين انتصار الأمانة على الضعف وعلى الجراح الناتجة عن الخطايا. وبنعمة المسيح التي تجدّد قلبيهما، يصبح الرجل والمرأة قادرين على التحرّر من الخطيئة وعلى تذوّق الفرح المتبادل.
12. «أنتم جميعاً الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح... لم يعد هناك لا رجل ولا امرأة» (غل 3/27-28). لا يعلن الرسول هنا ان التمييز بين الرجل والمرأة قد زال وهو الذي في مكان آخر يؤكد انّ هذا التمييز يعود الى تصميم الله. فهو بالأحرى يعني: في المسيح يمكن تذليل التنافس والعداوة والعنف التي كانت تشوّه علاقة الرجل والمرأة وانّها قد ذلّلت فعلاَ. بهذا المعنى فالتمييز بين الرجل والمرأة، الذي يرافق فعلاً كل الوحي الكتابي، هو شيء مؤكّد إلى الأبد.
في نهاية تاريخنا الحاضر، وبينما تبرز في رؤيا يوحنا «سماء جديدة وأرض جديدة» (رؤ 21/1)، نرى ان أورشليم هي أنثى «مزيّنة كخطيبة لعريسها» (رؤ 21/2) والوحي ذاته ينتهي مع كلام العروس والروح وهما يدعوان العريس: «تعال، ايها الربّ يسوع» (رؤ 22/20).
وهكذا يبدو المذكّر والمؤنّث كجزء لا يتجزّا من الخليقة؛ إذن هما مدعوّان الى الدوام بعد هذا الزمن، تحت شكل متجلٍّ. وهكذا يعطيان الحب الطابع الذي «لا يزول أبداً» (1 قو 13/8) حتى ولو بطل التعبير الزمني والأرضي عن الميل الجنسي الآخذ شكل حياة مطبوعة بالولادة والموت. والبتوليّة المكرّسة لأجل الملكوت لتكون نبؤة لهذا الشكل من الحياة، التي وان ظلّت حياة رجل وامراة، لا تعود خاضعة للحدود الحاضرة للحياة الزوجيّة (متى 22/30). من جهة ثانية، للذين يعيشون الحياة الزوجيّة، تصبح هذه الحالة تذكيراً ونبؤة لنهاية علاقتهما في رؤية الله وجهاً لوجه.
3- وضع القيم النسائيّة في حياة المجتمع:
13. بين القيم الأساسيّة المتعلّقة بحياة المرأة العمليّة هناك ما يسمّونه «أهليّتها نحو الآخر». فهي تحتفظ بحدس عميق بأن أفضل ما في حياتها مؤلّف من أنشطة موجّهة الى إيقاظ الآخر ونموّه وحمايته، بالرغم من ان بعض الحديث عن المرأة يطالب بأن «تحيا لذاتها».
هذا الحدث هو رهن قدرتها الجسديّة لإعطاء الحياة. أعاشت هذه القدرة بالفعل أو امتلكتها بالقوّة، إنها حقيقة تبني شخصيّة المرأة بعمق؛ تسمح لها بأن تبلغ نضجها باكراً وتعطيها الشعور بقيمة الحياة والمسؤولياّت المناطة بها. وهذا ينمي لديها أيضاً معنى الأشياء الوضيعة واحترام، تلك التي تعارض التعلّق بالمطلق الذي كثيراً ما يقتل، في حياة الفرد والمجتمع. وهو الذي، حتى في الحالات الميؤوس منها، - والتاريخ الماضي والحاضر شاهدين على ذلك – يعطي قدرة فريدة لمواجهة المخاطر ويجعل الحياة ممكنة في اشدّ الظروف صعوبة ويحافظ بعناد على الإحساس بالمستقبل ويذكّر، من خلال الدموع، بقيمة الحياة البشريّة. وكون الأمومة عاملاً إنسانيّا لهويّة المرأة لا يسمح مطلقاً بألاّ ننظر إلى المرأة إلاّ بالنسبة للولادة الجسديّة. قد يكون هناك مبالغات كبرى تمجّد الخصب البيولوجي بعبارات تقدّس نشاط القوى الحيويّة وكثيراً ما تتطوّر إلى احتقار للمرأة مخيف. وجود دعوة مسيحيّة للبتوليّة هو جرأة بالنسبة الى تقليد العهد القديم كما بالنسبة الى الكثير من المجتمعات البشريّة؛ وهذا كبير الأهميّة[17]. إذ يكوّن اعتراضاً جذريّاً لكل من يدّعي حبس المرأة في مصير بيولوجي محض. وكما ان البتوليّة تتلقّى من الأمومة الجسديّة تذكيراً بأن لا دعوة مسيحية إلاّ في بذل الذات الفعلي نحو الآخر، كذلك فالأمومة الجسديّة تتلقّى من البتوليّة تذكيراً ببعدها الروحي؛ أي ان الإكتفاء بالحياة الجسديّة لا يخوّلنا القول بأننا ولدنا الآخر حقّاً. أي ان الأمومة تستطيع أن تجد أشكالاً للتكامل التام حتى وإن لم يكن هناك ولادة جسديّة[18].
من هذا المنظور نفهم دور المرأة على كل اصعدة الحياة العائليّة والاجتماعيّة التي تتضمّن علاقات انسانيّة واهتماماً بالآخر. هنا تظهر بوضوح ما يسميّه يوحنا بولس الثاني «عبقريّة المرأة»[19]. وهذا يتضمّن أولاً أن تكون النساء حاضرات بنوع فعّال وأن يبرهنّ عن حزم في العائلة. «هذا المجتمع الأولي والرئيسي»[20]. إذ هنا يتبلور بنوع أساسي وجه الشعب. هنا يكتسب أعضاء العائلة المكتسبات الأساسيّة. يتعلّمون أن يحبّوا إذ هم محبوبون مجاّناً؛ يتعلّمون أن يحترموا كل شخص آخر إذ هم محترمون، يتعلّمون أن يتعرّفوا إلى وجه الله بقبول أول اكتشاف في وجه أب وأمّ ينتبهان إليهم. وكلّ مرّة تغيب هذه الاختبارات الأساسيّة، فالمجتمع بأسره يتألّم من العنف الذي يوكّد بدوره أنواعاً من العنف عديدة. هذا يتضمّن أيضاً أن يكون للمرأة حضور في عالم العمل وفي مسؤولياّت المجتمع وان تتسلّم وظائف ومسؤوليّات في ابداء الراي في سياسات الأمم وتقديم حلول جديدة للمشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
بهذا الخصوص لا ننسَ ان التوفيق بين النشاطين – عائلة وعمل – يأخذ في حياة المرأة مناحي غير التي يأخذها في حياة الرجل. فالمشكلة هي إيجاد التناغم بين شريعة العمل وتنظيمه من جهة ومتطلّبات المرأة العائلية من جهة ثانية. فليست المشكلة محض قانونيّة ولا اقتصاديّة ولا تنظيميّة، بل قضيّة ذهنيّة وثقافة واحترام. وهذا يتطلّب ضرورة تقويماً عادلاً للعمل الذي تقوم به المرأة داخل البيت. فباستطاعة النساء، لو اردن ذلك بكل حريّة، أن يكرّسن وقتهنّ للاهتمام بالمنزل بدون أن يفقدن قيمتهنّ اجتماعيّاً ولا أن يُعاقَبنَ اقتصاديّاً. بينما اللواتي يرغبن في نشاطات أخرى، يستطعن الحصول عليها في أوقات مناسبة بدون أن يرين ذواتهنّ مجبرات على اختبار التضحية بالعائلة أو الخضوع لضغط يوميّ لا ييسرّ لهنّ الاتّزان الشخصي ولا التناغم العائلي. يقول يوحنا بولس الثاني: «انّ شرف المجتمع هو أن ييسرّ للمرأة- بدون إعاقة حريتها وبدون تمييز تقني أو عملي وبدون أن تعاقب بالنسبة إلى سائر النساء – إمكانيّة الإهتمام بالأولاد والتكرّس لتربيتهم بحسب حاجات سنّهم المختلفة»[21].
14. فمن المناسب مع ذلك أن نذكّر بالقيم الأنثويّة التي أشرنا إليها والتي هي قبل كل شيء قيم انسانيّة. فوضع الرجل والمرأة الإنساني، وقد خلقا على صورة الله، هو وضع واحد لا يتجزأ. انّما لأنّ النساء أكثر ائتلافاً مباشرة مع هذه القيم، فباستطاعتهنّ أن يذكّرن بها وأن يكنّ لها العلاقة المميّزة. لكن، بعد البحث والتدقيق، كل كائن بشريّ، رجل وامرأة، مُعدّ أن يحيا «للآخر». من هنا فانّ ما يسمىّ انوثة هو أكثر من صفة للجنس الأنثوي، إذ الكلمة تعني القدرة الانسانيّة الأساسيّة للعيش للآخر وبفضل الآخر.
ترقّي المرأة وسط المجتمع يجب أن يُفهم وأن يُراد به نوع من الأنسنة تتحقّق بواسطة قيم أعيد اكتشافها بفضل المرأة. كلّ نظرة تريد أن تكون نظرة إلى النزاع بين الجنسين إن هي سوى خديعة وفخّ؛ ولا تؤدّي إلاّ إلى أوضاع تمييزيّة ومنافسة بين الرجال والنساء وإلى تشجيع أحاديّة تتغذّى بنظرة خاطئة إلى الحريّة.
دون أن نعاكس الجهود الآيلة إلى تنمية الحقوق التي تستطيع النساء أن تصبو إليها في المجتمع والعائلة، ترمي هذه الملاحظات بالأحرى إلى تصحيح النظرة التي تعتبر الرجال أعداء يجب التغلّب عليهم. كما ان العلاقة بين الرجل والمرأة لا تستطيع أن تدّعي أنّها تجد شكلها الخارجي الصحيح في نوع من المواجهة المرتابة والدفاعيّة. يجب أن تُعاش هذه العلاقة في سلام الحب المتبادل وسعادته.
وبأكثر واقعية، إذا كان على السياسات الاجتماعيّة – حول التربية والعائلة والعمل والوصول الى الخدمات والمشاركة في الحياة المدنيّة – أن تحارب كل تمييز جنسي ظالم من جهة، فعليها من جهة ثانية أن تعرف أن تصغي إلى طموحات كل واحد وان تكتشفها. فالدفاع عن المساواة في الكرامة ونموّها وعن القيم الشخصيّة المشتركة يجب أن يتناغم والإعتراف الواعي بالفروقات وبالتبادل حيث يتطلّب ذلك تحقيق الخصوصيّات الإنسانيّة لكل واحد، ذكريّة كانت أم انثويّة.
4- وضع القيم النسائيّة في حياة الكنيسة:
15. ميزة المرأة، في نظر الكنيسة، هي أساسيّة وخصبة اليوم أكثر من كل وقت آخر. هذا يتأتّى من هويّة الكنيسة بالذات، هذه الهويّة التي قبلتها المرأة من الله في الإيمان. هذه الهويّة «السريّة» والعميقة والجوهريّة هي التي يجب أن نفكّر فيها عندما نتأمّل بأدوار الرجل والمرأة المتكاملة في الكنيسة.
منذ الأجيال المسيحيّة الأولى، اعتبرت الكنيسة ذاتها جماعة ولدها المسيح وهي متّحدة به بعلاقة حبّ تعبّر عنها أفضل تعبير صورة الزواج. من هنا أنّ واجب الكنيسة الأوّل هو أن تظلّ في حضرة حبّ الله هذا الذي ظهر في المسيح وان تتأمّل فيه وتحتفل به. يكوّن وجه مريم في الكنيسة، في هذا المجال، المرجع الأساسي. وان استعملنا استعارة، يمكننا القول ان مريم الحاضرة في الكنيسة تقدّم المرآة التي تتعرّف فيها الكنيسة على هويّتها واستعدادات قلبها والمواقف والحركات التي ينتظرها منها الله.
حياة مريم كلّها دعوة للكنيسة لكي تجذّر كيانها في سماع كلمة الله وتقبّلها، إذ ليس الإيمان بحث عن الله بقدر ما هو تعرّف الإنسان على أنّ الله آتٍ اليه، يفتقده ويكلّمه. هذا الإيمان، حيث «لا شيء مستحيل عند الله» (تك 18/14؛ لو 1/37)، يعاش ويتعمّق في الطاعة المتواضعة والمحبّة التي بها تعرف الكنيسة ان تخاطب الآب «فليكن لي بحسب قولك» (لو 1/38). فالإيمان يوجّهنا دوماً إلى المسيح - «اصنعوا ما يأمركم به» (يو 2/5) ويرافقه على الطريق حتى اقدام الصليب. وسط الظلمات الدامسة، تحافظ مريم على أمانتها بشجاعة تسندها فقط الثقة بكلمة الله.
وتتعلّم الكنيسة دوماً من مريم أن تعرف المسيح معرفة حميمة. مريم، التي حملت على ذراعيها طفل بيت لحم، تعلّمنا أن نعرف تواضع الله اللامحدود. هي، التي حملت جسد يسوع المتألّم المنزل عن الصليب، تدلّ الكنيسة كيف تحتمل كل أنواع الحياة التي، في عالمنا، تشوّهت بالعنف والخطيئة. من مريم تتعلّم الكنيسة معنى قوّة الحبّ كما ينشرها الله ويظهرها في حياة ابنه الحبيب بالذات «فرّق المتكبّرين – ورفع المتواضعين» (لو 1/51-52). ومن مريم أيضاً يتعلّم تلاميذ المسيح معنى المديح وتذوّقه تجاه عمل يدي الله: «قدرته صنعت بي عظائم» (لو 1/49) كما يتعلّمون أنّهم في العالم لكي يذكروا «عزائمه» ولكي يسهروا بانتظار يوم الرب.
16. أن ننظر إلى مريم ونتأمّل فيها لا يعني أن ندع الكنيسة تعيش في سلبيّة ناتجة عن نظرة بالية للأنوثة وأن نعرّضها لجراح خطرة في عالم يعتمد بخاصّة على التسلّط والقوّة. والواقع انّ طريق المسيح ليس طريق تسلّط (في 2/6)، ولا طريق قوّة كما يفهمها العالم (يو 18/36). بإمكاننا أن نتعلّم من ابن الله ان هذه السلبيّة هي في الواقع طريق للحبّ؛ انّها طريق ملوكي ينتصر على كلّ عنف؛ «انّها ألم» يخلّص العالم من الخطيئة والموت ويخلق الإنسانيّة من جديد. عندما استودع المصلوب الرسول يوحنا أمّه دعا الكنيسة إلى أن تتعلّم من مريم سرّ الحبّ المنتصر.
وعوض من أن يعطي الكنيسة هويّة مبنيّة على مثال نسبي للأنوثة، أي التمثّل بمريم وجهوزتها للسماع والتقبّل والتواضع والأمانة والمديح والإنتظار، فهو يضعها في تواصل مع تاريخ اسرائيل الروحي. هذه المواقف تصبح مع يسوع وبه، دعوة كلّ معمَّد. بمعزل عن هذه الظروف والحالات الحياتيّة والدعوات المختلفة، ومع مسؤوليّات عامّة أو بدونها، هذه المواقف تحدّد مظهراً جوهريّاً من مظاهر الحياة المسيحيّة. كذلك إذا كان الحال يتعلّق بمواقف تخصّ كلّ معمَّد، يعود بطريقة مميّزة للمرأة أن تحياها بقوّة وبطبيعيّة. وهكذا فللنساء دور ذو أهميّة كبرى في حياة الكنيسة إذ تذكّر سائر المؤمنين بهذه المواقف وتساهم بطريقة فريدة بإظهار وجه الكنيسة الحقيقي، اي عروس المسيح وأمّ المؤمنين.
من هذا المنظور، نفهم أيضاً كيف انّ كهنوت الخدمة المحفوظ للرجل فقط[22] لا يمنع النساء مطلقاً من الوصول إلى صميم الحياة المسيحيّة. فهنّ مدعوّات ليكنّ نماذج لجميع المسيحييّن وشهوداً لا غنى عنهم بما يتعلّق بالزوجة التي تبادل حبّ زوجها بالحبّ.
خاتمة:
17. بالمسيح يسوع يصبح كلّ شيء جديد (أع 21/5). ومع ذلك يستحيل التجدّد بالنعمة من دون ارتداد القلب. المطلوب، ونحن ننظر إلى يسوع ونعترف به ربّاً، أن نتعرّف إلى طريق الحبّ المنتصر على الخطيئة الذي يعرضه الرب على تلاميذه.
هكذا تتحوّل علاقة الرجل والمرأة. والشهوة المثلّثة التي تتكلّم عليها رسالة يوحنا الأولى (را 2، 16) لا يعود بوسعها أن تنتصر. المطلوب هو ان نتقبّل الشهادة التي تعطيها حياة النساء ككشف عن قيم بدونها تنغلق البشريّة على ذاتها باكتفاء ذاتي، في أحلام السلطة وفي فخّ العنف. وعلى المرأة بدورها أن تستسلم للإرتداد وأن تتعرّف على قيم فريدة وفعّالة بتمييز لمحبّة القريب التي تحملها انوثتها. وفي الحالتين، المطلوب هو ارتداد البشريّة الى الله «كعون» لها، كخالق كلّه حنان وكفادٍ «أحبّ العالم إلى حدّ أنّه أعطى ابنه الوحيد» (يو 3/16).
وهذا الإتّحاد لا يتمّ إلاّ في صلاة متواضعة لننال من الله نفاذ البصر الذي يجعلنا نرى خطيئتنا وفي الوقت عينه النعمة الشافية. يجب بخاصة أن نلتمس معونة العذراء مريم، المرأة بحسب قلب الله «والمباركة بين جميع النساء» (لو 1/42) التي اختارها الله لكي تكشف للبشريّة، رجالاً ونساءً، طريق الحبّ. هكذا فقط يمكن أن تظهر في كلّ رجل وكلّ امرأة، ولكلّ بحسب النعمة المعطاة له، «صورة الله» التي هي الرسم المقدّس الموسمون به (تك 1/27). هكذا فقط نستطيع أن نجد طريق السلام والدهشة التي يشهد لها التقليد الكتابي من خلال آيات نشيد الأناشيد حيث الأجساد والقلوب تحتفل بنشيد التهليل ذاته.
لا شكّ أنّ الكنيسة تعرف قوّة الخطيئة التي تعمل في الأفراد والمجتمعات والتي في بعض الأحيان قد تحمل على اليأس من صلاح الزوجين. إنّما بإيمانها بالمسيح المصلوب والقائم من الموت تعرف قوّة المسامحة وبذل الذات بالرغم من كلّ الجروح ومن كلّ ظلم. السلام والتعجّب التي يدلّ إليهما الرجال والنساء اليوم هما سلام وتعجّب بستان القيامة التي أنارت عالمنا وكلّ تاريخه إذ كشفت عن «ان الله محبة» (1 يو 4/8، 6).
في المقابلة الممنوحة للكردينال رئيس المجمع الممضي اسمه أدناه، أقرّ الحبر الأعظم هذه الوثيقة المقرّرة في جلسة عاديّة لمجمع العقيدة والإيمان وأمر بنشرها.
أعطيت في روما، مقر مجمع العقيدة والإيمان في 31 ايار 2004 في عيد زيارة الطوباوية مريم العذراء.
أنجلو أماتو الكردينال جوزيف رتزنغر
رئيس اساقفة سيلا شرفاً رئيس
أمين سرّ
1 يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي «الجماعة العائلية» (22 تشرين الثاني 1981، أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982) ص81-91. الوثائق الكاثوليكية 79 (1982) ص1-37. رسالة رسولية كرامة المرأة (15 آب 1988؛ أعمـال الكرسي الرسولي (1988) ص1653-1729. الوثائق الكاثوليكية 85 (1988) ص1063-1100. رسالة الى الأسر (2 شباط 1994): أعمال الكرسي الرسولي ص 868-925؛ الوثائق الكاثوليكيـة 91 (1994) ص 251-277؛ رسالة الى النساء (29 حزيران 1995) ص 803-912، الوثائق الكاثوليكية 92 (1995) ص 717-722؛ كرازات في الحب البشري (1979-1984): تعاليم II (1978)، VII (1984): الجسم والقلب والروح، على صورة الله. رجل وامرأة. قراءة في سفـر التكوين 1-3، باريس، منشورات لوسارف (1983) والجسم والقلب. على صورة الله. رجل وامرأة قراءة في انجيل متى 5/27-28 باريس لوسارف (1984). مجمع التربية الكاثوليكية: توجيهات تربوية في الحب البشري. خطوط في التربية الجنسية (1 تشرين الثاني 1983): تعليم الفاتيكان المختصر ص 420-456؛ الوثائق الكاثوليكية 81 (1984) ص 16-29؛ المجلس الحبري للعائلة، حقيقة ومعنى الجنس البشري. توجيهات للتربية العائلية (8 كانون الأول 1995)؛ تعليم الفاتيكان المختصر 14، ص 2008-2077؛ الوثائق الكاثوليكية 93 (1996) ص 207-235.
2 حول قضية الجنس المعقّدة، راجع المجلس الحبري للعائلة؛ العائلة والزواج و«قرانات الأمر الواقع» (21 تشرين الثاني 2000)، عد 8: الوثائق الكاثوليكية 98 (2001) ص 163-164.
3 يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة: الإيمان والعقل (14 ايلول 1998) عد 21، أعمال الكرسي الرسولـي 91 (1999) ص 22 الوثائـق الكاثوليكيـة 95 (1998) ص 909: «هذا الإنفتاح على السرّ، الذي ناله من الوحي، أصبح له في نهاية الأمر ينبوع معرفة حقيقية سمحت لعقله أن يلتزم في مجالات لامحدودة، ما أعطاه فهماً غير منتظر الى اليوم».
4 يوحنا بولس الثاني، رسالة رسولية، كرامة المرأة (15 آب 1988) عد 6. أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 662؛ الوثائـق الكاثوليكيـة 85 (1988) ص 1066؛ القديس ابريانوس، ضد الهرطقات 5، 6، 1؛ 6، 16، 2-3. SCh 53، ص 72-81؛ ص 216-221؛ القديس غريغوريوس النيصي، عمل الإنسان، عد 16. أباء يونانيون 44، ص 805-808؛ القديس اغسطينوس، شرح المزامير، عد 4، 8: CCL 38، 17.
5 الكلمة العبريّة عزر المترجمة بعون تدل على المساعدة التي وحده الإنسان يستطيع أن يؤدّيها لإنسان آخر. لا تتضمّن الكلمة أي مفهوم محقِّر أو يجعل من الإنسان آداة، عندما نفكّر ان الله ذاته مدعو أحياناً عزر نحو الإنسان (خر 18/4؛ مز 9/10،53).
6 يوحنا بولس الثاني، رسالة رسولية، كرامة المرأة (15 آب 1988) عد 6. أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 166. الوثائـق الكاثوليكيـة 85 (1988) ص 1067.
7 يوحنا بولس الثاني، كرازة: العطاء في حريّة الحبّ (16 كانون الثاني 1980): تعليم III، 1 (1980)، ص 148؛ الوثائق الكاثوليكية 77 (1980) ص 162.
8 يوحنا بولس الثاني، كرازة في الشهوة والعلاقات بين الرجل والمرأة (23 تموز 1980)، عد 1: تعليـم III، 2 (1980)، ص 288؛ الوثائـق الكاثوليكيـة 77 (1980) ص 810.
9 يوحنا بولس الثاني، رسالة رسولية، كرامة المرأة (5 آب 1988) عد 7: أعمال الكرسي الرسولـي (1988) ص 1666؛ الوثائـق الكاثوليكيـة 85 (1988) ص 1068.
10المرجع ذاته، أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، ص 1663؛ الوثائق الكاثوليكية 85 (1988) ص 1067.
11 مجمع التربية الكاثوليكيّة، توجيهات تربويّة حول الحبّ البشري (1 تشرين الثاني 1983) عد 4-5. مختصر التعليم الفاتيكاني 9، ص 423؛ الوثائق الكاثوليكية 81 (1984) ص 16.
12 المرجع ذاته.
13 ضد الهرطقات،4، 34، 1:SCh 100، ص 846: «حمل كلّ جديد وهو يحمل ذاته»
14 تقليد الشروع القديمة ترى في مريم في قانا «صورة المجمع اليهودي وبدء الكنيسة».
15 يتعمّق الانجيل الرابع هنا معطى موجود لدى الإزائيّين (متى 9،15 و...).حول موضوع يسوع زوج، راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة الى الأسر (2 شباط 1994) عد 18: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994) ص 906-910. الوثائق الكاثوليكية 91 (1994) ص 251-277.
16 يوحنا بولس الثاني، رسالة الى الأسر (2 شباط 1994) عد 19: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994) ص 911؛ الوثائق الكاثوليكية 91 (1994)، ص 270؛ راجع كرامة المرأة (15 آب 1988)، عد 23-25: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 1708-1715؛ الوثائق الكاثوليكية 85 (1988) ص 1081-1083).
17 يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي «الجماعة العائلية»(22 تشرين الثاني 1981)، عد 16. أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، ص 98-99؛ الوثائق الكاثوليكية عد 79 (1982)، ص 6.
18 المرجع ذاته عـد 41: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، ص 132-133؛ الوثائق الكاثوليكيّة 79 (1982)، ص 16. مجمع العقيدة والإيمان، تعليم «الحياة هبة الله» (22 شباط 1987)، 11، 8: أعمال الكرسي الرسولي (1988)، ص 96-97؛ الوثائق الكاثوليكيّة 84 (1987)، ص 359.
19 يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى النساء، (29 حزيران 1995)، عد 9-10: أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، ص 809-810؛ الوثائق الكاثوليكيّة 92 (1995)، ص 720-721.
20 يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى الأسر (2 شباط 1994)، عد 17؛ أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994)، ص 906؛ الوثائق الكاثوليكيّة 98 (1994)، ص 268.
21 رسالة عامة، العمل البشري (14 ايلول 1981)، عد 19: أعمال الكرسي الرسولي 73 (1981)، ص 627؛ الوثائق الكاثوليكيّة 78 (1981)، 849.
22 يوحنا بولس الثاني، رسالة رسوليّة، الرسامة الكهنوتيّة (22 أيار 1994): أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994)، ص 545-548؛ الوثائق الكاثوليكيّة 92 (1995)، ص 1079-1081. مجمع العقيدة والإيمان، جواب على شكّ حول عقيدة الرسالة الرسوليّة الرسامة الكهنوتيّة (28 تشرين الأول 1995): أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، ص 1114، الوثائق الكاثوليكية 92 (1995)، ص 1079
لتحميل الرسالة اضغط على دون لود
رسالة الى أساقفة الكنيسة الكاثوليكية حول تعاون الرجل والمرأة في الكنيسة والعالم | |
File Size: | 235 kb |
File Type: | doc |