رسالة قداسة البابا
إلى المتقدمين في السن
سنو حياتنا سبعون سنة … كان الرقم يبدوكبيرا في الماضي. لكنه أصبح سهل التجاوز اليوم بفضل حسن العيش وتقدم العلم. ومع ذلك فالإنسان يتقدم في العمر، والعمر يسير بسرعة. أردتُ، وقد تقدّمت في السن أنا أيضا، أن أتكلم معكم وأن أشكر الله معكم على كل ما حبانا من نعم أثناء حياتنا. أسترجع في الذكرى مراحل حياتي التي غطت معظم أحداث هذا القرن، وأوجه إليكم هذه الرسالة، أيها المسنون من كل بلد، بمناسبة سنة المسنين التي أعلنتها الأمم المتحدة. أريد أن أشعر أنكم معي وأريد أن تشعروا أني معكم.
من الطبيعي أن ينظر المرء إلى الوراء في هذه المرحلة المتقدمة من العمر. ومهما عادت بنا الذاكرة إليه من أحداث مؤلمة، يجب أن نعتبر أن كل هذا كان نعمة من الله. أول انطباع ينتابنا هو مرور الوقت بسرعة وبدون عودة، وأن الحياة منتهية لا محالة. بيد أن فينا ثمرة حياة الروح التي لا تزول، بفضل قيامة المسيح الذي وهب لنا عربون الحياة الأبدية.
أرادني الله وإياكم في القرن العشرين، وأراد لنا أن نعيش هذه القرن بحلوه ومرّه. فالمر هو الحربان العالميتان ومختلف الحروب بين الشعوب والتي لم تنته بعد، ثم الحرب الباردة لعدة سنوات بين كبار العالم، ثم الخطر النووي الذي يهدد وجود العالم بأسره، وأخيرا النظم الشيوعية الدكتاتورية التي حكمت قسما كبيرا من العالم وزالت والحمد لله.
أما الحلو فهو أيضا كثير والحمد لله. أوله ميل إلى احترام الحياة البشرية والاعتراف بحقوق الشعوب المستضعفة في حكم نفسها وانتشار القيم الديمقراطية والحرية ووعي متزايد لحقوق الإنسان واحترام قيمة المرأة وتفعيل دورها وانتشار وسائل الإعلام الحديثة والاهتمام المتزايد بالبيئة وتقدم العلوم الطبية في مختلف المجالات. ونحن نشكر الله على هذه النعم التي تشكل نورا يضئ لنا طريق شيخوختنا.
ما هي الشيخوخة؟ عرفها القدماء أنها خريف العمر، وهذا صحيح. وغيرهم شبهها بأصابع اليد الخمسة التي ترمز إلى مراحل العمر الخمسة والى الدور الخاص بكل إصبع. صحيح أن الطفولة والشبيبة هما المرحلتان اللتان يتكوّن فيهما الشخص الإنساني، لكن صحيح أيضا أن للشيخوخة أيضا صفات خاصة بها، وأولها نمو فضيلة الحكمة.
باطل الأباطيل وكل شيءٍ باطل، يقول سفر الجامعة: "الصبا والشباب باطلان" (11،10). ومع ذلك يعطي الكتاب المقدس قيمة كبيرة لحياة الإنسان. فالإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله. وطول العمر في الكتاب المقدس علامة رضي الهي. فإبراهيم نال الوعد في شيخوخته، وكذلك زوجته سارة، وكان موسى شيخا عندما أوكل الله إليه مهمة إخراج شعبه من عبودية مصر. وكذلك طوبيا عندما كان يقوم بأعمال الرحمة كان شيخا.
وكما في العهد القديم كذلك في الجديد. فزكريا واليصابات كانا متقدمين في السن عندما بشرّهما الله بولادة يوحنا، وعندما قدمت مريم ابنها للهيكل تلقاها شيخ جليل هو سمعان ونبية اسمها حنة. ونيقوديموس الذي أتى إلى يسوع ليلا كان كهلا. المعنى وراء ذلك أن خدمة الإنجيل ليس أمرا مرتبطا بالعمر. فكل عمر يمكنه أن يخدم الإنجيل حسب طاقاته. أذكر بنوع خاص، كوني خليفة بطرس، كلمات يسوع لبطرس: "عندما كنت شابا… إذا صرت شيخا، مددت يدك وشد غيرك لك حزامك وأخذك إلى حيث لا تريد." (يوحنا 21، 18). انتظر بفارغ الصبر أن أمد يدي نحو المسيح الذي يقول لي "اتبعني" …
يقول المزمور 92: "يثمر حتى في المشيب".كما يوصي بولس الرسول تلميذه طيطس: " علّم الكبار أن يتحلوا باليقظة والوقار والرصانة… وعلّم العجائز أن يتصرّفن كما يليق بنساء يسلكن طرق القداسة… يعلّمن الشابات محبة أزواجهن أولادهن" (2، 2-5). الشيخوخة إذاً في تعليم الكتاب المقدس مكان مناسب لإتمام مسيرة الحياة فيما يوصف بحكمة القلب. "لأن الحكمة المكرّمة ليست هي قديمة الأيام ولا هي تقدّر بعدد السنين، ولكن شيب الإنسان هو الفطنة وسنّ الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب" (الحكمة 4، 8-9).
كان القدماء يجلّون الشيوخ. وما زالت بعض الشعوب اليوم تفعل ذلك، وبعضها تناسته بسبب التركيز في التعامل مع الإنسان على درجة إنتاجه في الوقت الحاضر. من هنا يتساءل بعض المتقدمين في السن عن معنى وجودهم. وقد توصل الكلام حتى عن الموت الرحيم لإنهاء حياة من لا فائدة منهم. لا شك أن هنالك حالات من الألم يشعر فيها المريض ومن يحيط به انه "أرحم" أن يموت، وهنا تسمح الأخلاق المسيحية بتوقيف الآلات الاصطناعية التي تحافظ على الحياة والإبقاء على العلاج الطبيعي للمرض المعنى. لكن لا يمكن أبدا قتل الإنسان بحجة تخفيف آلامه.
فالحياة بمجملها مسيرة إلى الأبدية. وكل فترة من فترات العمر تهيئ للأبدية، بما فيها عمر الشيخوخة. ومساهمة المتقدمين في العمر في هذه المسيرة هي الحكمة والمحافظة على الذاكرة الجماعية والحكم الصائب والحكيم على ما يجري أمام عيونهم. ورفض مساهمة المتقدمين في العمر هي رفض الماضي الذي فيه يتجذّر الحاضر. أما الضعف الجسدي في هذه المرحلة فهو دعوة إلى التضامن بين مختلف فئات العمر ودعوة إلى إعطاء كل فترة مساهمتها للفئات الأخرى. فكما أن المستقبل أبدي، هكذا الماضي. فقد دخل هو أيضا في الأبدية.
ما المانع من السير قدما في احترام المتقدمين في السن؟ إن الشعوب التي شهدت نزول الكتاب المقدس حافظت عليه باسم الوصية الرابعة: "أكرم أباك وأمك". هذه الوصية هي أساس العلاقات التي تجمع بين الأجيال. وهذه الوصية تحتل المكان الأول في لوحة الوصايا الثانية التي تتكلم عن واجبات الإنسان تجاه نفسه وتجاه المجتمع. ثم هي الوصية الوحيدة التي يتبعها وعد " أكرم أباك وأمك فتطول أيامك".
"قم قدام الأشيب وكرّم وجه الشيخ" (أخبار 19:32). والواجب تجاه المتقدم في السن مثلث: قبول ومساعدة وتقدير. وهذا أمر تقوم به الشعوب بدرجات متفاوتة. ومع ذلك هذا أمر معنوي مهم للمتقدم في السن. فقد قال شيشرون: "يصبح ثقل السنين خفيفا عندما يشعر المرء أن هناك من يحبه". زد على ذلك أن الجسد قد يشيب لا الروح، لأنه يبقى ينظر إلى الأبدية. هكذا يصبح الموت انعتاقاً للروح يسمح لها بالتحليق في حياة أخرى يتمتع فيها الجميع بالكمال. وكم رأينا في حياتنا أشخاصا شباباً في روحهم، بالرغم من تقدم سنهم، ومليئين بالحكمة والمحبة في كلامهم وتصرفهم. أدعو الجميع إلى الاستفادة من حكمة المتقدمين في السن الذين يدعون في إفريقيا "مكتبات متجولة تحوي الكثير من كنوز الحكمة والعلم". فكما أنهم بحاجة إلى مساعدة على المستوى المادي، فإنهم يقدرون أن يقدموا للشباب مساعدات في مجالات أخرى. لذا أدعو الشباب أن: "أبقوا بقرب المتقدمين في السن وأشعروهم بمحبتكم. فأنتم بحاجة إليهم بقدر ما هم بحاجة إليكم".
وأول مجال تستفيد فيه الكنيسة من المتقدمين في السن هو مجال التبشير. فكثيرا ما يبدأ الأولاد تعلّم الأمور الدينية بقرب جدودهم. ثم هناك شهادة الحياة الهنيئة وإعطاء النصيحة اللازمة، ناهيك عن فاعلية الصلاة وشهادة الحياة المتألمة والصابرة. من هنا يجب أن يتابع المتقدم في السن الحياة في الجو الطبيعي الذي عاش فيه، أي بين أهله، لا على هامش المجتمع. لا شك أن هناك حالات تفرض أن يعيش المتقدم في السن في إحدى بيوت العجزة شريطة أن تكون مهيأة ومضيافة وتبعث عن الأمل والفرح. وحتى في هذه الحالات يجب أن تبقى العلاقات قريبة ومستمرة مع أفراد العائلة والأصدقاء. أيها المتقدمون في السن الأعزاء، عندما تشعرون بالألم والوحدة والعزلة بسبب العمر والأمراض، فانا معكم. وأقول لكم إن هذه أيضا نعمة من الله. أفكر فيكم أيها الأرامل، رجالا ونساء، ويا أيها الرهبان والراهبات اللذين فنيتم عمركم في خدمة الكنيسة. أقول لكم إن الكنيسة اليوم لا تزال تحتاج إليكم.
"قد عرّفتني سبل الحياة وستملؤني فرحا مع وجهك" (مزمور 15، 11). من الطبيعي مع مرور السنين أن نشعر أن السنين تمر وأن الموت بدأ يحصد بين أهلنا وأقاربنا ومعارفنا. نشعر بذلك عندما نجتمع من وقت لآخر (طلاب صف قدماء أو زملاء عمل …). فان كانت الحياة مسيرة إلى الأبدية، فمن الطبيعي أن يكون عمر الشيخوخة هو العمر الذي يتسلط فيه النظر إلى عتبة المرور إلى الحياة الأخرى. ومع ذلك فنحن ننظر إلى هذه العتبة بخوف. فلا أحد يحب الموت والإنسان خُلق للحياة لا للموت. والمسيح خاف أمام الموت وبكي. صحيح أن الموت أمر لازم بيولوجيا، لكنة يبقى لغزا.
حاولت بعض الثقافات أو الديانات حصر حياة الإنسان في هذه الأرض. لكن إيماننا المسيحي يؤكد إن إلهنا ليس اله أموات بل اله أحياء. والمسيح هو الذي كشف لنا ماذا يوجد بعد عتبة الموت. "فإن حياة المؤمنين بك يا رب لا تزول بل تتبدّل". وهكذا حوّل المسيح الموت العدو إلى "الأخت" التي تقودنا إلى الآب.
هكذا لا يعود الموت انتظارا للقدر المحتوم بل رجاء بحياة السعادة الأبدية. والشيخوخة فترة من العمر نعيشها بين يدي الله الرحيم. لذا يجب تشجيع كل مبادرة تهدف إلى الاستفادة من عمر المتقدمين في السن واستعدادهم للخدمة ولتمضية وقتهم في أمور مفيدة تجعل من حياتهم أمرا لذيذا. هكذا قال سمعان الشيخ الذي طلب الموت بعد أن رأى مسيح الرب، وهكذا قال بولس الرسول الذي تمنى أن "يتحرر من الجسد ليكون مع المسيح" (فيلبي). أما اغناطيوس الإنطاكي ففي طريقه إلى الموت كان يسمع صوت الروح فيه يقول: "تعال إلى الآب". لذا الحياة قيمة يجب أن نعيشها حتى النهاية، وهذا لا ينقص من قيمة الحياة الأبدية.
يطيب لي الآن أن أشارككم، أيها الإخوة المسنين والأخوات المسنات، فيما يجول بخاطري وأنا شيخ مثلكم وخليفة بطرس، وبعد أكثر من عشرين عاما من خدمة الكنيسة في نهاية هذا القرن. فأنا بالرغم من كل أمراضي وأوجاعي لا زلت أحب الحياة. وأشكر الرب على ذلك. وأرى جميلا أن يخدم الإنسان ربه حتى آخر رمق في حياته. وفي نفس الوقت أشعر براحة كبيرة عندما أفكر في لحظة اللقاء مع الخالق. كثيرا ما تأتيني صلاة يتلوها الكاهن في نهاية القداس: " أأمرني أن آتي إليك".
"أأمرني أن آتي إليك". هذا ما يجول في قلب كل إنسان حتى دون أن يشعر به. أعطنا يا رب أن نعتبر كل فترة من فترات حياتنا نعمة كبيرة منك. أعطنا أن نعمل مشيئتك ونضع أنفسنا بين يديك دون تحفظ. وعندما تحين ساعة اللقاء، امنحنا أن نجتاز العتبة بهدوء وفرح. وعندما نلتقي بك نختبر القيمة الحقيقة لكل ما عشناه وعاشه إخوتنا الذين سبقونا. وأنت يا مريم، يا أم البشرية المسافرة، صلّي لأجلنا الآن وفي ساعة موتنا. اجعلينا قريبين من يسوع ابنك وأخينا، سيد الحياة والمجد.
آمين.
الفاتيكان 1/10/1999
البابا يوحنا بولس الثاني
إلى المتقدمين في السن
سنو حياتنا سبعون سنة … كان الرقم يبدوكبيرا في الماضي. لكنه أصبح سهل التجاوز اليوم بفضل حسن العيش وتقدم العلم. ومع ذلك فالإنسان يتقدم في العمر، والعمر يسير بسرعة. أردتُ، وقد تقدّمت في السن أنا أيضا، أن أتكلم معكم وأن أشكر الله معكم على كل ما حبانا من نعم أثناء حياتنا. أسترجع في الذكرى مراحل حياتي التي غطت معظم أحداث هذا القرن، وأوجه إليكم هذه الرسالة، أيها المسنون من كل بلد، بمناسبة سنة المسنين التي أعلنتها الأمم المتحدة. أريد أن أشعر أنكم معي وأريد أن تشعروا أني معكم.
من الطبيعي أن ينظر المرء إلى الوراء في هذه المرحلة المتقدمة من العمر. ومهما عادت بنا الذاكرة إليه من أحداث مؤلمة، يجب أن نعتبر أن كل هذا كان نعمة من الله. أول انطباع ينتابنا هو مرور الوقت بسرعة وبدون عودة، وأن الحياة منتهية لا محالة. بيد أن فينا ثمرة حياة الروح التي لا تزول، بفضل قيامة المسيح الذي وهب لنا عربون الحياة الأبدية.
أرادني الله وإياكم في القرن العشرين، وأراد لنا أن نعيش هذه القرن بحلوه ومرّه. فالمر هو الحربان العالميتان ومختلف الحروب بين الشعوب والتي لم تنته بعد، ثم الحرب الباردة لعدة سنوات بين كبار العالم، ثم الخطر النووي الذي يهدد وجود العالم بأسره، وأخيرا النظم الشيوعية الدكتاتورية التي حكمت قسما كبيرا من العالم وزالت والحمد لله.
أما الحلو فهو أيضا كثير والحمد لله. أوله ميل إلى احترام الحياة البشرية والاعتراف بحقوق الشعوب المستضعفة في حكم نفسها وانتشار القيم الديمقراطية والحرية ووعي متزايد لحقوق الإنسان واحترام قيمة المرأة وتفعيل دورها وانتشار وسائل الإعلام الحديثة والاهتمام المتزايد بالبيئة وتقدم العلوم الطبية في مختلف المجالات. ونحن نشكر الله على هذه النعم التي تشكل نورا يضئ لنا طريق شيخوختنا.
ما هي الشيخوخة؟ عرفها القدماء أنها خريف العمر، وهذا صحيح. وغيرهم شبهها بأصابع اليد الخمسة التي ترمز إلى مراحل العمر الخمسة والى الدور الخاص بكل إصبع. صحيح أن الطفولة والشبيبة هما المرحلتان اللتان يتكوّن فيهما الشخص الإنساني، لكن صحيح أيضا أن للشيخوخة أيضا صفات خاصة بها، وأولها نمو فضيلة الحكمة.
باطل الأباطيل وكل شيءٍ باطل، يقول سفر الجامعة: "الصبا والشباب باطلان" (11،10). ومع ذلك يعطي الكتاب المقدس قيمة كبيرة لحياة الإنسان. فالإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله. وطول العمر في الكتاب المقدس علامة رضي الهي. فإبراهيم نال الوعد في شيخوخته، وكذلك زوجته سارة، وكان موسى شيخا عندما أوكل الله إليه مهمة إخراج شعبه من عبودية مصر. وكذلك طوبيا عندما كان يقوم بأعمال الرحمة كان شيخا.
وكما في العهد القديم كذلك في الجديد. فزكريا واليصابات كانا متقدمين في السن عندما بشرّهما الله بولادة يوحنا، وعندما قدمت مريم ابنها للهيكل تلقاها شيخ جليل هو سمعان ونبية اسمها حنة. ونيقوديموس الذي أتى إلى يسوع ليلا كان كهلا. المعنى وراء ذلك أن خدمة الإنجيل ليس أمرا مرتبطا بالعمر. فكل عمر يمكنه أن يخدم الإنجيل حسب طاقاته. أذكر بنوع خاص، كوني خليفة بطرس، كلمات يسوع لبطرس: "عندما كنت شابا… إذا صرت شيخا، مددت يدك وشد غيرك لك حزامك وأخذك إلى حيث لا تريد." (يوحنا 21، 18). انتظر بفارغ الصبر أن أمد يدي نحو المسيح الذي يقول لي "اتبعني" …
يقول المزمور 92: "يثمر حتى في المشيب".كما يوصي بولس الرسول تلميذه طيطس: " علّم الكبار أن يتحلوا باليقظة والوقار والرصانة… وعلّم العجائز أن يتصرّفن كما يليق بنساء يسلكن طرق القداسة… يعلّمن الشابات محبة أزواجهن أولادهن" (2، 2-5). الشيخوخة إذاً في تعليم الكتاب المقدس مكان مناسب لإتمام مسيرة الحياة فيما يوصف بحكمة القلب. "لأن الحكمة المكرّمة ليست هي قديمة الأيام ولا هي تقدّر بعدد السنين، ولكن شيب الإنسان هو الفطنة وسنّ الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب" (الحكمة 4، 8-9).
كان القدماء يجلّون الشيوخ. وما زالت بعض الشعوب اليوم تفعل ذلك، وبعضها تناسته بسبب التركيز في التعامل مع الإنسان على درجة إنتاجه في الوقت الحاضر. من هنا يتساءل بعض المتقدمين في السن عن معنى وجودهم. وقد توصل الكلام حتى عن الموت الرحيم لإنهاء حياة من لا فائدة منهم. لا شك أن هنالك حالات من الألم يشعر فيها المريض ومن يحيط به انه "أرحم" أن يموت، وهنا تسمح الأخلاق المسيحية بتوقيف الآلات الاصطناعية التي تحافظ على الحياة والإبقاء على العلاج الطبيعي للمرض المعنى. لكن لا يمكن أبدا قتل الإنسان بحجة تخفيف آلامه.
فالحياة بمجملها مسيرة إلى الأبدية. وكل فترة من فترات العمر تهيئ للأبدية، بما فيها عمر الشيخوخة. ومساهمة المتقدمين في العمر في هذه المسيرة هي الحكمة والمحافظة على الذاكرة الجماعية والحكم الصائب والحكيم على ما يجري أمام عيونهم. ورفض مساهمة المتقدمين في العمر هي رفض الماضي الذي فيه يتجذّر الحاضر. أما الضعف الجسدي في هذه المرحلة فهو دعوة إلى التضامن بين مختلف فئات العمر ودعوة إلى إعطاء كل فترة مساهمتها للفئات الأخرى. فكما أن المستقبل أبدي، هكذا الماضي. فقد دخل هو أيضا في الأبدية.
ما المانع من السير قدما في احترام المتقدمين في السن؟ إن الشعوب التي شهدت نزول الكتاب المقدس حافظت عليه باسم الوصية الرابعة: "أكرم أباك وأمك". هذه الوصية هي أساس العلاقات التي تجمع بين الأجيال. وهذه الوصية تحتل المكان الأول في لوحة الوصايا الثانية التي تتكلم عن واجبات الإنسان تجاه نفسه وتجاه المجتمع. ثم هي الوصية الوحيدة التي يتبعها وعد " أكرم أباك وأمك فتطول أيامك".
"قم قدام الأشيب وكرّم وجه الشيخ" (أخبار 19:32). والواجب تجاه المتقدم في السن مثلث: قبول ومساعدة وتقدير. وهذا أمر تقوم به الشعوب بدرجات متفاوتة. ومع ذلك هذا أمر معنوي مهم للمتقدم في السن. فقد قال شيشرون: "يصبح ثقل السنين خفيفا عندما يشعر المرء أن هناك من يحبه". زد على ذلك أن الجسد قد يشيب لا الروح، لأنه يبقى ينظر إلى الأبدية. هكذا يصبح الموت انعتاقاً للروح يسمح لها بالتحليق في حياة أخرى يتمتع فيها الجميع بالكمال. وكم رأينا في حياتنا أشخاصا شباباً في روحهم، بالرغم من تقدم سنهم، ومليئين بالحكمة والمحبة في كلامهم وتصرفهم. أدعو الجميع إلى الاستفادة من حكمة المتقدمين في السن الذين يدعون في إفريقيا "مكتبات متجولة تحوي الكثير من كنوز الحكمة والعلم". فكما أنهم بحاجة إلى مساعدة على المستوى المادي، فإنهم يقدرون أن يقدموا للشباب مساعدات في مجالات أخرى. لذا أدعو الشباب أن: "أبقوا بقرب المتقدمين في السن وأشعروهم بمحبتكم. فأنتم بحاجة إليهم بقدر ما هم بحاجة إليكم".
وأول مجال تستفيد فيه الكنيسة من المتقدمين في السن هو مجال التبشير. فكثيرا ما يبدأ الأولاد تعلّم الأمور الدينية بقرب جدودهم. ثم هناك شهادة الحياة الهنيئة وإعطاء النصيحة اللازمة، ناهيك عن فاعلية الصلاة وشهادة الحياة المتألمة والصابرة. من هنا يجب أن يتابع المتقدم في السن الحياة في الجو الطبيعي الذي عاش فيه، أي بين أهله، لا على هامش المجتمع. لا شك أن هناك حالات تفرض أن يعيش المتقدم في السن في إحدى بيوت العجزة شريطة أن تكون مهيأة ومضيافة وتبعث عن الأمل والفرح. وحتى في هذه الحالات يجب أن تبقى العلاقات قريبة ومستمرة مع أفراد العائلة والأصدقاء. أيها المتقدمون في السن الأعزاء، عندما تشعرون بالألم والوحدة والعزلة بسبب العمر والأمراض، فانا معكم. وأقول لكم إن هذه أيضا نعمة من الله. أفكر فيكم أيها الأرامل، رجالا ونساء، ويا أيها الرهبان والراهبات اللذين فنيتم عمركم في خدمة الكنيسة. أقول لكم إن الكنيسة اليوم لا تزال تحتاج إليكم.
"قد عرّفتني سبل الحياة وستملؤني فرحا مع وجهك" (مزمور 15، 11). من الطبيعي مع مرور السنين أن نشعر أن السنين تمر وأن الموت بدأ يحصد بين أهلنا وأقاربنا ومعارفنا. نشعر بذلك عندما نجتمع من وقت لآخر (طلاب صف قدماء أو زملاء عمل …). فان كانت الحياة مسيرة إلى الأبدية، فمن الطبيعي أن يكون عمر الشيخوخة هو العمر الذي يتسلط فيه النظر إلى عتبة المرور إلى الحياة الأخرى. ومع ذلك فنحن ننظر إلى هذه العتبة بخوف. فلا أحد يحب الموت والإنسان خُلق للحياة لا للموت. والمسيح خاف أمام الموت وبكي. صحيح أن الموت أمر لازم بيولوجيا، لكنة يبقى لغزا.
حاولت بعض الثقافات أو الديانات حصر حياة الإنسان في هذه الأرض. لكن إيماننا المسيحي يؤكد إن إلهنا ليس اله أموات بل اله أحياء. والمسيح هو الذي كشف لنا ماذا يوجد بعد عتبة الموت. "فإن حياة المؤمنين بك يا رب لا تزول بل تتبدّل". وهكذا حوّل المسيح الموت العدو إلى "الأخت" التي تقودنا إلى الآب.
هكذا لا يعود الموت انتظارا للقدر المحتوم بل رجاء بحياة السعادة الأبدية. والشيخوخة فترة من العمر نعيشها بين يدي الله الرحيم. لذا يجب تشجيع كل مبادرة تهدف إلى الاستفادة من عمر المتقدمين في السن واستعدادهم للخدمة ولتمضية وقتهم في أمور مفيدة تجعل من حياتهم أمرا لذيذا. هكذا قال سمعان الشيخ الذي طلب الموت بعد أن رأى مسيح الرب، وهكذا قال بولس الرسول الذي تمنى أن "يتحرر من الجسد ليكون مع المسيح" (فيلبي). أما اغناطيوس الإنطاكي ففي طريقه إلى الموت كان يسمع صوت الروح فيه يقول: "تعال إلى الآب". لذا الحياة قيمة يجب أن نعيشها حتى النهاية، وهذا لا ينقص من قيمة الحياة الأبدية.
يطيب لي الآن أن أشارككم، أيها الإخوة المسنين والأخوات المسنات، فيما يجول بخاطري وأنا شيخ مثلكم وخليفة بطرس، وبعد أكثر من عشرين عاما من خدمة الكنيسة في نهاية هذا القرن. فأنا بالرغم من كل أمراضي وأوجاعي لا زلت أحب الحياة. وأشكر الرب على ذلك. وأرى جميلا أن يخدم الإنسان ربه حتى آخر رمق في حياته. وفي نفس الوقت أشعر براحة كبيرة عندما أفكر في لحظة اللقاء مع الخالق. كثيرا ما تأتيني صلاة يتلوها الكاهن في نهاية القداس: " أأمرني أن آتي إليك".
"أأمرني أن آتي إليك". هذا ما يجول في قلب كل إنسان حتى دون أن يشعر به. أعطنا يا رب أن نعتبر كل فترة من فترات حياتنا نعمة كبيرة منك. أعطنا أن نعمل مشيئتك ونضع أنفسنا بين يديك دون تحفظ. وعندما تحين ساعة اللقاء، امنحنا أن نجتاز العتبة بهدوء وفرح. وعندما نلتقي بك نختبر القيمة الحقيقة لكل ما عشناه وعاشه إخوتنا الذين سبقونا. وأنت يا مريم، يا أم البشرية المسافرة، صلّي لأجلنا الآن وفي ساعة موتنا. اجعلينا قريبين من يسوع ابنك وأخينا، سيد الحياة والمجد.
آمين.
الفاتيكان 1/10/1999
البابا يوحنا بولس الثاني