الافخارستيا
صلاة شكر للآب الافخارستيا هي منبع وذروة الحياة المسيحية والكنسية (را:ك11). وقد كانت هكذا منذ جماعة اورشليم الاولى، على حد قول سفر اعمال الرسل: "وكانوا مواظبين على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات " (أع2: 42، را: 46). وكانت الجماعة الاولى تلتئم خصوصا في اليوم الاول من الاسبوع، يوم الرب (را: رؤ1: 10)، لكسر الخبز (را: اع20: 7، 1كو16: 2). وقد قال لنا الاسقف الشهيد اغناطيوس الانطاكي منذ بداية القرن الثاني: ان يكون الانسان مسيحيا يعني ان يعيش " بموجب يوم الاحد ". ومن بعده بقليل ترك لنا الشهيد يوستينوس وصفا معبرا لاحتفالات الافخارستيا كما كانت تجري يوم الاحد في الجماعات المسيحية الاولى: " اما يوم الاحد، فنجتمع فيه كلنا، لانه اليوم الاول الذي فيه خلق الله العلم بتحويل الظلمة والمادة الاصلية، ولان يسوع المسيح مخلصنا، في هذا اليوم، قام من بين الاموات ". وقد بقي هذا الامر في الاساس الى يومنا. فالاحتفال بافخارستيا يوم الاحد هو التعبير الاهم عن الحياة المسيحية وعن حياة الجماعة المسيحية (را: ل106). ولكن الاحتفال بالافخارستيا ايضا في ايام الاسبوع له للفرد كما للجماعة اهمية كبيرة. هذه المكانة المركزية للافخارستيا قد عملت الحركة الليتورجية في القرن الحالي على وعيها مجددا. فتجديد الاحتفال الليتورجي بالافخارستيا الذي بوشر به على عهد البابا بيوس الثاني عشر، واثبته المجمع الفاتيكاني الثاني (را:ل47- 49)، واكتمل في كتاب القداس الجديد الذي وضعه البابا بولس السادس سنة 1969، يقتضي من كل الجماعة كلها اسهاما شخصيا عميقا ومشاركة اساسية في الاحتفال. فيمكن من ثم وصف تعزيز الليتورجيا وتجديدها في عصرنا بأنها " علامة التفات من عناية الله "، و " مرور للروح القدس بكنيسته " (ل43).
لفهم الافخارستيا في عمق جوهرها، يجب ان نتساءل عن مصدرها في يسوع المسيح، وخصوصا عن علاقتها بكرازة يسوع بملكوت الله، وبموته وقيامته. ذلك ان الممارسة الافخارستية القائمة في الكنيسة منذ البدء تعود الى يسوع المسيح نفسه، وهو الذي اسسها. وبالتفصيل يمكننا ان نتكلم على تأسيس الكنيسة من قبل يسوع المسيح على ثلاث مراحل: فقد اعد لها في الطعام المشترك الذي كان يسوع يتناوله في اثناء حياته على الارض، وتأسست في اثناء عشاء يسوع الاخير في ليلة موته، وتثبتت في ترائيات المسيح القائم من بين الاموات بالارتباط مع اجتماعات تلاميذه للطعام.
ان الاطعمة المشتركة التي كان يسوع يتناولها مع تلاميذه في اثناء حياته على الارض كانت احتفالات تمهيدية وتذوقا مسبقا لطعام الزمن الاخير الذي وعد به الانبياء، لوليمة العرس السماوية. وقد كانت في الوقت عينه دلائل عن تقبل الضالين في شركة الخلاص النهائية. فتمجيد الله وغفران الخطايا يرتبط احدهما بالاخر منذ ذلك الحين. ومن ثم فقد كانت ولائم يسوع علامات للخلاص في اخر الازمان الذي بدأ، وللشراكة الجديدة مع يسوع ولشراكة الناس بعضهم مع بعض. –اما العشاء الاخير الذي تناوله يسوع مع تلاميذه في ليلة الآمه، فقد كان له طابع خاص. فما فعله الرب في الليلة التي اسلم فيها كان امرا جديدا. فلدى صلاة التسبيح والشكر، في حركة توزيع للخبز والخمر وما رافقها من كلمات معبرة، استبق يسوع بذل ذاته للموت " من اجل الكثيرين "، واشرك في هذا البذل تلاميذه. ورأى في الوقت عينه موته الآتي في ضوء مجيء ملكوت الله النهائي: "الحق اقول لكم: اني لن اشرب بعد من ثمر الكرمة، الى اليوم الذي اشربه فيه جديدا في ملكوت الله" (مر14: 25). – وبصليب يسوع وقيامته تثبتت الكلمات التي قالها في العشاء الاخير. ومن بعد قيامته، تراءى ايضا لتلاميذه في اوقات تناول الطعام. وقد وصف هذا وصفا مؤثرا جدا في لقاء التلميذين مع يسوع على طريق عماوس، اذ عرفاه عند كسر الخبز (را: لو24: 13-35، را:63- 43، يو21: 1-14). وكان ايضا كسر الخبز هذا يتسم في الجماعة الاولى بالسعادة الاخروية (اع 2: 46).
ينجم عن هذا بالنسبة الى مفهوم الافخارستيا ان ولائم يسوع في حياته على الارض وعشاءه الاخير وولائم الجماعة الاولى الافخارستية تقع كلها في ظل علامة مجيء ملكوت الله. الاحتفال بالافخارستيا هو علامة سابقة لوليمة العرس السماوية (را: رؤ19: 9). لذلك يتسم كل احتفال افخارستي بطابع القيامة. ومنذ ايام الكنيسة الاولى، نحتفل بالافخارستيا في يوم الاحد،على انه اليوم الذي فيه قام المسيح من بين الاموات (الصلاة الافخارستية الاولى والثانية والثالثة في الطقس اللاتيني). ومن ثم الافخارستيا هي استعجال للاشتراك في الوليمة السماوية وتذوق مسبق للمجد الآتي. انها علامة الوعد والرجاء بالخليقة الجديدة الممجدةوالمعتقة من كل عبودية. فيها يعلن ويعاش مسبقا بشكل علامة ما سوف يكون يوما عندما يصير الله كلاً في الكل (را: 1كو15: 28). ومن ثم فمن ياكل من هذا الخبز الافخارستي له منذ الان الحياة الابدية، وسوف يقيمه الرب في اليوم الاخير(را: يو6: 54).
الافخارستيا هي، على غرار المن في العهد القديم، غذاء شعب الله في العهد الجديد وزاد مسيرته (را:1كو10: 3-4). بيد ان المن في الصحراء لم يكن سوى علامة سابقة لخبز الله الحقيقي النازل من السماء والذي يعطي الحياة للعالم (را: يو6: 33). فمن ياكل من هذا الخبز لن يرى الموت ابدا (را: يو6: 49-50، 58).
ولان في الافخارستيا نحتفل بالتحرير الفصحي من قوة الموت وبعطية الحياة الجديدة الابدية، فالافخارستيا هي اكثر من مجرد طعام. انها " ذبيحة التسبيح " (الصلاة الافخارستية الاولى، را: عب13: 15)، التي تستحضر ذبيحة يسوع الواحدة التي تمت على الصليب وتجعلنا نحيا مسبقا المجد الآتي. لذلك ندعوها منذ القرن الثاني افخارستيا اي صلاة الشكر. فيها نقدم لله الآب التسبيح والشكر على كل ما وهبنا اياه في الخلق والخلاصز ومن ثم فما تعنيه انماهو الخلاص والحياة في عبادة الله وتمجيدةز هذا الحمد نعبرعنه خصوصا في مقدمة القداس وفي ترنيمة " قدوس ". وفي ختام الصلاة الافخارستية نوجزه في التسبيح الكبير:
" به ومعه وفيه،
لك، ايها الاله، الاب القدير،
في وحدة الروح القدس،كل تمجيد واكرام،
الان والى الابد ".
ويعبر ايضا عن السعادة في الآخرة التراتيل والثياب المقدسة، وطابع العيد والابتهاج، والرسوم الدينية، وسائر ما يزدان به الاحتفال بالافخارستيا.وفي عصرنا بالذات، المنشغل بالعمل والكسب والانتاج، فالاعياد والاحتفالات المجانية في داخل العالم هي علامات هامة تشير الى العالم الجديد الذي هو موضوع رجائنا. اليوم بالذات نحن بحاجة الى ثقافة متجددة ومشبعة بروحانية يوم الاحد، يقوم في وسطها الاحتفال بالافخارستيا (را: السينودس الالماني العام: العبادة 2). فالاحتفال الحقيقي، الذي هو اكثر من ضجيج وتسلية، يشترط اليقين بان قوة الشر والموت قد غلبت. وهكذا يصح، في الافخارستيا، الفرح والشكر لفصح يسوع المسيح، اعني لعبوره من الموت الى الحياة، الذي يضمنا اليه هذا الاحتفال. وفي الافخارستيا نوهب ايضا الشجاعة والرجاء للثبات الى النهاية في كل اوهان الالم والجهاد. وهذا ما كانت تصلي من اجله الكنيسة الاولى في الاحتفال بالافخارستيا:
" انت، ايها السيد القدير، خلقت كل شي من اجل اسمك، واعطيت البشر طعاما وشرابا، لينعموا بهما ويقدموا لك الشكر، اما نحن فقد اعطينا طعاما وشرابا روحيين، والحياة الابدية، بيسوع فتاك.
ونشكر لك خصوصا انك انت القدير. لك المجد الى الابد.
اذكر، يارب، كنيستك، نجها من كل شر، وكملها في محبتك.
اجمعها من الرياح الاربع، وقدسها، وابلغها ملكوتك الذي اعددته لها.
لان لك القدرة والملك الى الابد.
لتأت النعمة وليمض هذا العالم!
هوشعنا لابن داود... مارانا تا (تعال، ايها الرب ).
امين " ( تعليم الرسل 10: 3-6).
3-2- حضور يسوع المسيح الافخارستي
ان ملكوت الله، الذي كرز به يسوع ووعد به، قد صار حاضرا في اقوال يسوع المسيح وعمله وشخصه. ومن ثم فاستعجال الملكوت الذي يحتفل به في الافخارستيا يتم بحضور يسوع المسيح نفسه.
ان حضور يسوع المسيح نفسه يتم في الاحتفال الافخارستي بطرق متنوعة: فيسوع المسيح حاضر في الجماعة المحتفلة، على حد قوله: " حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي فأنا اكون هناك في وسطهم " (متى18: 20).
ويسوع المسيح حاضر في كلمته وفي شخص من يقوم بالخدمة الكهنوتية. فيسوع المسيح نفسه هو الذي يكلمنا، وهو الذي يدعونا الى وليمته الافخارستية ويعمل في الافخارستيا، وهو الذي يبذل نفسه للآب ويهبنا ذاته. ولكن يسوع المسيح حاضر حضورا خاصا في الافخارستيا، في انه، بتلاوة صلاة الحمد الافخارستي على الخبز والخمر لتقديسهما، يصير يسوع المسيح بقدرة هذه الكلمات حاضرا حضورا حقيقيا وواقعيا وجوهريا تحت الاشكال الافخارستية ( را: ل7). ان حضور يسوع المسيح الحقيقي هذا هو قلب الافخارستيا، التي تكمن اوليتها على سائر الاسرار في انها لا تهبنا ثمرة الخلاص وحسب، بل منبع الخلاص، يسوع المسيح نفسه، الذي يتحقق حضوره فيها بوجه خاص ومميز.
ان حضور يسوع المسيح الحق والحقيقي في اشكال الخبز والخمر يرتكز، بحسب ايمان الكنيسة، على قول يسوع: " هذا هو جسدي " – " هذا هو دمي " (مر14: 22، 24إز).
" الجسد " لايعني ، في الاستعمال السامي، جزءا من الانسان وحسب ،بل الشخص بكامله في جسدانيته الحسية. فعندما نسمع القول التالي: "هذا هو جسدي لاجلكم " (1كو11: 24)، اي "هذا هو جسدي الذي يبذل لاجلكم " (لو22: 19)، فمن الواضح ان الامر يتعلق بحضور شخص يسوع المسيح في بذل ذاته من اجلنا. وعلى النحو نفسه تعني لفظة "الدم"، في المفهوم السامي، جوهر الحياة لدى الانسان.
فالدم " الذي يهراق عن الكثيرين " (متى26: 28) يعني من ثم يسوع نفسه في بذل حياته من اجلنا. وفيما تردد الكنيسة هذه الكلمات التي قالها الرب في الوصية التي تركها لنا قبل موته، فهي لا تروي ماجرى في العشاء الاخير وحسب، بل تكرز ايضا " بموت الرب الى ان يأتي " (1كو11: 26). هذه الكرازة تعني قولا رسميا يتمم ما ينطق به. ومن ثم فسرد رواية تأسيس الافخارستيا هي صلاة تقديس تُتلى على الخبز والخمر باسم يسوع المسيح وفي شخصه، بها يصير حاضرا في اشكال الخبز والخمر جسد يسوع المسيح ودمه، أعني شخص يسوع المسيح الجسداني المحسوس، في بذل ذاته من اجلنا.
ان استحضار يسوع المسيح في الافخارستيا ليس عملا سحريا او ألياً. بل يتم بالحري من خلال صلاة استدعاء الروح القدس (الإبيكليسيس ) التي ترفع باسم يسوع المسيح الى الله الآب. كل ما فعله يسوع في حياته انما فعله في الروح القدس، وفيه خصوصا قرّب ذاته ذبيحة (را: عب9: 14). وبالروح القدس، يبقى حاضرا على الدوام في الكنيسة وفي العالم. وحضور يسوع الافخارستي يتم ايضا بقدرة الروح القدس. لذلك يصلي الكاهن قبل تلاوة كلمات التأسيس:
" ارسل روحك القدوس على هذه القرابين وقدسها، لكي تصير لنا جسد ودم ابنك يسوع المسيح ربنا " (الصلاة الافخارستية الثانية).
ضد ما حدث في التاريخ من اساءة فهم، كان على الكنيسة ان تؤكد من جهة حضور يسوع المسيح الحقيقي والجوهري، وتعلن من جهة اخرى ان هذا الحضور هو " سر ايمان " فريد ولا مثيل له. ولا ثبات حقيقة حضور يسوع المسيح الافخارستيا وفي الوقت عينه سرية هذا الحضور، استعمل المجمع اللاتراني الرابع (سنة 1215) والمجمع التريدنتيني (سنة 1551) مفهوم التحول الجوهري. وعاد في العصر الحديث البابا بيوس الثاني عشر والبابا بولس السادس، فأكد هذا التعبير وثبتاه (را: دنتسنغر 3891).
" ان سر المذبح يتضمن حقا جيده ودمه في اشكال الخبز والخمر، بعد ان يتحول تحولا جوهريا، بقدرة الله، الخبز الى الجسد والخمر الى الدم " (را: دنتسنغر 802).
تعلم الكنيسة وتعترف " علنا وبدون تراجع ان ربنا يسوع المسيح، الإله الحقيقي والانسان الحقيقي، بعد تكريس الخبز والخمر، هو حاضر حضورا حقيقيا وجوهريا في اشكال هذه الاشياء المنظورة " (را: دنتسنغر 1636).
" بتكريس الخبز والخمر يتم تحول جوهر الخبز بكامله الى جوهر جسد المسيح ربنا، وجوهر الخمر بكامله الى جوهر دمه. وهذا التحول تدعوه الكنيسة بحق وبالمعنى الحصري للفظة تحولا جوهريا " (را: دنتسنغر 1642).
ان تعليم التحول الجوهري لا يقصد تقديم تفسير عقلي لسر الافخارستيا الذي لايمكن ادراكه إلا بالايمان. انما القصد منه الحفاظ على معنى كلمات التأسيس التي نطق بها يسوع، وذلك ضد التفسيرات المنحازة لها. فيثبت هذا التعليم ان حضور المسيح الحقيقي والجوهري لا يغير شيئا مما يمكن اختباره من مظهر الخبز والخمر (في ما يختص بالحجم والرائحة والطعم والتركيب الكيميائي .. الخ)، وان حضور المسيح في الافخارستيا لا يجوز بالتالي فهمه بالمعنى المكاني.
ان الايمان بحضور يسوع المسيح الحقيقي في الافخارستيا لا يتعلق من ثم بمجال ما يخضع للمراقبة كما في العلوم الطبيعية، ولا بما تدعوه العلوم الطبيعية جوهرا. ان الاشياء، حتى على الصعيد الطبيعي، هي اكثر مما يمكن ادراكه او قياسه او احصاؤه. وحضور المسيح يتعلق بجوهر الخبز والخمر الذي يتخطى ادراك الاختبار البشري. في الافخارستيا يفقد الخبز والخمر تحديد ما هما عليه وما يعنيان من الناحية الطبيعية، اعني كونهما غذاء جسديا، وينالان تحديدا جديدا كيانهما ولمعناهما. اذ يصيران علامة حسية لحضور يسوع المسيح الشخصي ولعطاء ذاته الشخصي. في علامة الخبز والخمر الحسية تتجسد محبة يسوع المسيح التي تشاركنا حياتنا وتهبنا ذاتها، بحيث ان يسوع المسيح، في هذه الاشكال، هو حاضر في بذل ذاته " من اجلنا ". ومن ثم فما تقصد عبارة " التحول الجوهري " اثباته هو انه في الافخارستيا، في علامة الخبز والخمر، تصير حاضرة حقيقة جديدة، بل الحقيقة الجديدة.
ان عمل الله في يسوع المسيح يحدث بوجه نهائي. وهذا مايعبرعنه استمرار حضور يسوع المسيح في الافخارستيا بعد الانتهاء من الاحتفال الافخارستي. وقد تمسكت الكنيسة الكاثوليكية على الدوام باستمرار حضور يسوع المسيح الافخارستي. وهذا ما تعبر عنه العادة القديمة التي تقضي بالاحتفاظ بإكرام بالاجزاء المتبقية من الاحتفال الافخارستي، واعطاء المناولة للمرضى خارجا عن الاحتفال الافخارستي (را: دنتسنغر 1645). فالمعنى الاصلي والاول للاحتفاظ بالقربان المقدس هو من ثم مناولة المرضى واعطاء الزاد الاخير للمُدنِفين. والهدف الثاني توزيع المناولة خارج الاحتفال الافخارستي، وعبادة الرب الحاضر على الدوام في الاشكال الافخارستية. ومن سبل التعبد الافخارستي خارجا عن الليتورجيا الافخارستية، ثم خصوصا السجود للقربان المقدس والتطواف بالقربان المقدسز ولاسيما في عيد الجسد الالهي، وكذلك الصلاة الفردية امام اقدس الاقداس. وقد انتشرت هذه العبادات في القرون الوسطى، وتجد معناها في سياق الاستعداد للاحتفال الافخارستي وفي نتائجه، وبنوع خاص في المناولة (را: دنتسنغر 1643، ل47). فمتى فهمت هذه الصيغ المتنوعة للعبادة الافخارستية على هذا النحو، إذاك يكون لها معنى دائم في الكنيسة (را: دنتسنغر 1644). ومن ثم فهي بحاجة الى العناية والتنشيط في حياة كل جماعة وكل فرد.
ولقد عبر توما الاكويني بتعابير رائعة عن فحوى ايمان الكنيسة بالافخارستيا في اناشيد عيد الجسد الشهيرة : " سبحي يا صهيون" (كتاب الترانيم 545)،
" ليعلن كل لسان" (كتاب الترانيم 543 – 544)، اعبدك خاشعا (كتاب الترانيم 546):
" اعبدك خاشعا، الهي المحتجب.
في هذه العلامات انت حقا هناز
بكل قلبي اهبك ذاتي،
فأمام هذا السر ما انا الا فقير.
عيناي وفمي ويداي تخطىء فهمك،
لكن بشرى الكلمة تكشف لي سرك.
ما قاله ابن الله اتقبله مؤمنا،
فهو نفسه الحق الذي لاخداع فيه ".
3-3- الافخارستيا ذكرى ذبيحة يسوع المسيح
ان ملكوت الله، الذي ندركه مسبقا في الليتورجيا الافخارستية، ونتناول عطية منذ الان في المناولة الافخارستية، قد بدأ في تجسد يسوع المسيح وموته وقيامته. ومن ثم فحضور يسوع المسيح في الافخارستيا لا يعني حضور شخصه وحسب، بل ايضا حضور عمله الخلاصي، ولاسيما ذبيحته على الصليب. هذا ما نعنيه عندما نتكلم على ذبيحة القداس، او على طابع الذبيحة الذي تتسم به الافخارستيا.
ان طابع الذبيحة الذي تتسم به الافخارستيا قد اشار اليه العهد الجديد في قول السيد المسيح على الكأس في انجيل متى: " هذا هو دمي، دم العهد (الجديد)، الذي يهراق عن الكثيرين لمغفرة الخطايا " (متى26: 28). هذا القول مرتبط ارتباطا حميما برواية العهد القديم التي تخبر بان موسى لدى تقدمة الذبيحة على جبل سيناء، رش نصف الدم على المذبح والنصف الاخر على الشعب قائلا: " هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الاقوال " (خر24: 8).
لفهم هذه الاقوال فهما أعمق، يجب التنبه الى مفهوم الذبائح السائد في سائر الاديان في تبدل تبدلا اساسيا منذ انبياء العهد القديم انفسهم وبنوع خاص في العهد الجديد. فلم يعد الامر يتعلق بذبائح خارجية، فهذه لايمكن ان تكون الا علامات لذبيحة تقدمة الذات الشخصية. في هذا المعنى تضع الرسالة الى العبرانيين على لسان يسوع لدى دخوله العالم القول التالي: " ذبيحة وقربانا لم تشأ، غير انك هيأت لي جسدا، لم ترتض محرقات ولا ذبائح خطيئة، حينئذ قلت: ها انذا آتي – اذ عني قد كتب في درج الكتاب – لأعمل، يا الله، بمشيئتك " (عب10: 5-7: را: مز40: 7-9، 15: 18-19). ومن ثم فان يسوع لا يقدم على الصليب شيئا ما، بل " يقدم نفسه لله ذبيحة " (أف5: 2). وبخلاف العهد القديم، لم يقرب المسيح ذبائح كثيرة، بل قرب ذبيحة واحدة، تبقى فاعليتها على الدوام (را: عب9: 11-28، 10: 10، 14).
ان استحضار ذبيحة المسيح الواحدة يطبق وصية الرب : " اصنعوا هذا لذكري " (لو22: 19، 1كو11: 24، را: 25). الذكر، في مفهوم الكتاب المقدس، لايعني مجرد تذكر لحدث ماض بل بالحري تسبيح عظائم الله التي يجعلها الاحتفال الليتورجي حاضرة هنا وفي هذه اللحظة (را: خر13: 3). على هذا النحو احتفل اسرائيل في وليمة الفصح بذكر تحريره من ارض مصر. وللذكر في العهد الجديد معنى جوهري اكثر عمقا. فالكنيسة في تقديمها ذبيحة التسبيح الافخارستية تذكر بالشكر وبعلامات الخبز والخمر تحريرها من قوة الخطيئة والموت، الذي تم لها بصليب يسوع وقيامته. فمن خلال احتفال الافخارستيا نعلن موت الرب (را: 1كو11: 26). ومن ثم فان ذبيحة يسوع على الصليب، بل كل عمل الخلاص الذي أجراه يسوع المسيح يصير حاضرا حضورا سريا في الافخارستيا من خلال الكلمة والعلامات الاسرارية. ان الصلوات الاساسية في الليتورجيا تبين هذه الناحية بكل الحاحز فمباشرة بعد النصوص التي تحيي ذكرى العشاء السري وانشاء القربان المقدس تجهر جماعة المصلين او الكاهن المحتفل بالهتاف التالي:
" اننا نعلن موتك، يارب،
ونسبح قيامتك،
الى ان تأتي بمجد ".
" لذلك، ايها الآب الصالح، نحتفل.... بذكر ابنك، يسوع المسيح ربنا. فنعلن الآمه الخلاصية، وقيامته من بين الاموات، وصعوده المجيد الى السماءز ومن هذه القرابين التي منحتنا اياها، نقدم لك... الذبيحة الطاهرة المقدسة التي لا عيب فيها " (الصلاة الافخارستية الاولى).
ان العلاقة بين ذبيحة الصليب وذبيحة القداس كثيرا ما اسىء فهمها في اواخر العصر الوسيط، والى ذلك ارتكبت أخطاء غشت المفهوم الصحيح لذبيحة الصليب. مما حمل المصلحين على انكار طابع الذبيحة الذي يسِم الافخارستيا انكارا جذريا. وقالوا ان هذا التعليم ينتج عنه شك في فرادة ذبيحة الصليب. ووصفوا القداس بانه اكبر الفظاعات واشدها هولا (البنود الشمالكلدية)، وبانها عبادة اوثان (تعليم هايدلبرغ). فكان على المجمع التريدنتيني، ردا على تلك التهجمات، ان يصيغ صياغة جديدة الافكار الرئيسية التي بامكانها ان تحسم الموضوع. فاعلن تمسكه بفرادة ذبيحة الصليب، وعبر عن العلاقة بين ذبيحة الصليب وذبيحة القداس في ثلاثة مفاهيم: ذبيحة القداس هي اولا عملا اسراري يستحضر ذبيحة الصليب، ويعيد ذكرها ويطبقها (را: دنتسنغر 1740). ومن ثم فالافخارستيا ليست ذبيحة جديدة ولا ذبيحة مستقلة، لتحل محل ذبيحة الصليب ولاحتى لتكملها. بل هي عمل اسراري يستحضر ذبيحة الصليب التي حدثت مرة واحدة على نحو نهائي:
" فثمة ذبيحة واحدة، وهي هي نفسها،وثمة واحد، وهو نفسه يقرب اليوم بوساطة الكاهن، كما قرب ذاته آنذاك على الصليب، وما يختلف انما هو طريقة التقديم" (را: دنتسنغر 1743).
تقوم اليوم مبادرات مسكونية لتبديد ما ساد قديما من جدل واساءة فهم في هذه المسألة، بغية الوصول الى مفهوم مشترك فيها (را: عشاء الرب، وثيقة ليما، تقرير فريق العمل المسكوني الالماني "ذبيحة يسوع المسيح والكنيسة "، "شركة الكنائس في الكلمة والاسرار".
وقد ساعدت مساعدة خاصة في هذا الموضوع العودة ثانية الى مفهوم الذكرى في الكتاب المقدس، على انه يجعلحاضرا اليوم عملا خلاصيا من اعمال الماضي. وهذه الفكرة اساسية في النصوص الليتورجية. وقد استوحاها المجمع الفاتيكاني الثاني (را:ل47، ن ر14).
المسألة المسكونية الحقيقية هي هل الافخارستيا، بفعل كونها سرا يستحضر ذبيحة يسوع المسيح الواحدة والوحيدة، هي في آن معا ذبيحة الكنيسة، والى اي مدى هي كذلك. بحسب المفهوم الكاثوليكي، ان يسوع المسيح، لكوننا بالمعمودية صرنا جسده المرتبط به، يدخلنا ايضا في ذبيحته. وبما ان الجماعة المسيحية انضمت بالمعمودية الى سر فصح المسيح (را:ل6)، فيمكنها وعليها ان تقدم ذاتها ذبيحة حية مقدسة (را:رو12: 1، ل48). لذلك نصلي في صلاة الافخارستيا قائلين: "فليجعلنا على الدوام قربانا لرضاك "( الصلاة الافخارستية الثالثة). في الافخارستيا، يقدم الرب المرتفع الىالسماء ذبيحته من خلال خدمة الجماعة الملتئمة في الليتورجيا ومن خلال ذبيحة التسبيح التي تقدمها. ومن ثم فالافخارستيا هي، في الوقت عينه، " في المسيح ومعه وبه"، ذبيحة الكنيسة. فذبيحة التسبيح والشكر التي تقدمها الكنيسة هي على نحو ما الصورة الاسرارية لحضور ذبيحة يسوع المسيح الواحدةز وبذلك فالافخارستيا هي موجز العبادة الالهية التي تقوم بها الحياة المسيحية، وذروتها وملؤها. انها التعبير الاسمى عن اكرام الله، وهي ايضا منبع التزام حياتنا في سبيل الاخوة والاخوات. وان كان ذلك ممكنا، فلأننا، في الافخارستيا، " نصير جسدا واحدا وروحا واحدا في المسيح " (صلاة الافخارستيا الثالثة ).
ان الافخارستيا، من خلال استحضار ذبيحة يسوع المسيح الواحدة الذي يتم اسراريا في الاحتفال الليتورجي، ومن خلال هذا الاحتفال عينه، هي في آن واحد ذبيحة تسبيح وذبيحة شفاعة وتكفير عن الخطايا. انها تقام " لمغفرة الخطايا " (متى26: 28). فهي تغفر الخطايا اليومية وتساعد على تجنب الخطايا الثقيلة. ويمكن اقامتها ايضا للشفاعة من اجل جميع الناس. هذه الممارسة في صلاة الشفاعة في الافخارستيا نشهدها منذ الكنيسة القديمة، وخصوصا في الدياميس المسيحية القديمة. ولايزال اليوم يرد ذكر الاحياء والاموات في الصلاة الافخارستية. فكل احتفال افخارستي انما يتم داخل " شركة القديسين " باجمعهاز ومن ثم يمكن اقامته باسم كل اعضاء جسد المسيح وللشفاعة فيهمز وللسبب عينه نذكر ايضا في اقامة الافخارستيا اعضاء جسد المسيح الذين انتقلوا للاشتراك في السعادة السماوية، اعني القديسين.
وعندما نحتفل بالافخارستيا اكراما لهم، انما نقصد بذلك تقديم الشكر لله لما انعم به عليهم من نعمة وتمجيد. وفي الوقت عينه نطلب شفاعتهم وحمايتهم.
3-4- الافخارستيا سر الوحدة والمحبة
ان الاحتفال بالافخارستيا، الذي هو احتفال سابق بوليمة العرس السماوية، يختتم ويكتمل بالمناولة الافخارستية. هذه الناحية قد عبر عنها بوضوح الاصلاح الليتورجي الذي عقب المجمع الفاتيكاني الثاني. فبتغيير مكان المذبح، الذي أفسح في المجال للاحتفال بالافخارستيا وجها لوجه للشعب، صارت الجماعة تلتئم حول المذبح كما حول المائدة. هذه الاشكال هي صورة للحدث الداخلي الذي يجري في الافخارستيا: أعني اتحاد كل شخص بيسوع المسيح، واتحاد كل واحد بالاخرين في يسوع المسيح.
ان ثمرة تقبل الافخارستيا في المناولة هي خصوصا الاتحاد العميق بيسوع المسيح. بتناول الاشكال الافخارستية يأتي المسيح بكامله ليقيم فينا، ونحن بكاملنا نقيم فيه.
" من ياكل جسدي ويشرب دمي،
يثبت فيّ وانا فيه " (يو 6: 56).
ان ما يعنيه الطعام الجسدي لحياة الجسد، هذا ما يفعله تناول الافخارستيا لحياة الروح: فهو يغذيها وينشطها ويجددها ويبهجها (را: دنتسنغر 1322).
بالدخول في شراكة المسيح بالمناولة، تزداد فينا حياة النعمة الجديدة، وتشفى امراض الخطيئة، ونتقوى لمقاومة الخطيئة. وفي الوقت عينه نتناول عربون السعادة السماوية والحياة الابدية الآتية (را: يو6: 54). لذلك نقرأ في الانديفونا التي تلي نشيد العذراء "تعظم نفسي الرب"، في عيد الجسد الالهي:
" ايتها المائدة المقدسة، التي فيها المسيح طعامنا، يا ذكرى الآمه، وملء النعمة، وعربون المجد الاتي " (را:ل47).
ان تعليم الكنيسة وممارستها يميزان نوعين من المناولة: المناولة التي هي في آن واحد اسرارية وروحية، والتي نتناول فيها جسد المسيح جسديا وفي الوقت عينه نتقبله بقلب مستعد، والمناولة الروحية المحض، اعني الاتحاد بيسوع المسيح من خلال رغبة التناول المفعنة ايمانا (را:دنتسنغر 1648). أما تقبل المناولة بطريقة غير لائقة من قبل خاطىء غير مستعد للاتحاد بيسوع المسيح، فلا ينتج منه الخلاص بل الدينونة.
ومن ثم فلتقبل المناولة المناولة تقبلا يثمر ثمارا روحية، يجب فحص الضمير والاستعداد للمناولة باعتناء، على حد قول بولس الرسول: "ومن ثم، فأي انسان يأكل خبز الرب او يشرب كأسه بلا استحقاق، يكون مجرما الى جسد الرب ودمه. فليختبر الانسان اذن نفسه، وعندئذ فقط، فليأكل من الخبز ويشرب من الكأس. لان من يأكل ويشرب بلا استحقاق، انما يأكل ويشرب دينونة بنفسه، اذ لم يميز جسد الرب " (1كو11: 27- 29). في ليتورجيا القديس يوحنا ذهبي الفم (الشرقية)، يهتف الكاهن بالمؤمنين قبل توزيع المناولة : "الاقداس للقديسين". فالمسيحي القائم في حالة الخطيئة المميتة ملزم، قبل التقدم الى المناولة، ان امكنه، ان يتقدم اولا من سر التوبة (را: دنتسنغر 1646- 1647). وللسبب عينه يستهل كل احتفال بالافخارستيا بفعل توبة لغفران الخطايا اليومية. والمهم في الامر هو المصالحة مع الاخرين (را: متى5: 23- 24). وكذلك الصوم قبل المناولة الافخارستية، الذي كانت قاعدته شديدة وصارت اليوم اكثر ليونة، فهو في خدمة هذا الاستعداد اللائق. ومن يتقدم الى المناولة، فعن قول الكاهن: "جسد المسيح" ، يجيب: "آمين". وهو يقصد بهذا الجواب: "نعم، اؤمن، اني مستعد بالايمان لتقبل جسد المسيح".
الافخارستيا لاتميز وتتم اتحاد المؤمن الفرد بالمسيح وحسب، بل ايضا اتحاد جميع المؤمنين، وحدة الكنيسة في يسوع المسيح. بالاشتراك في جسد المسيح الافخارستي الواحد. ننضم كلنا الى جسد المسيح الواحد، الى الكنيسة:
" فبما ان الخبز واحد، فنحن الكثيرين جسد واحد، لانا جميعا نشترك في الخبز الواحد" (1كو10: 17).
يرى آباء الكنيسة في اعداد الخبز من حبات القمح الكثيرة، والخمر من عناقيد العنب الكثيرة صورة لاتحاد جميع المؤمنين بالمناولة في جسد المسيح الواحد. استنادا الى القديس اوغسطينوس يصف تعليم الكنيسة الافخارستيا بأنها " علامة الوحدة " ، "رباط المحبة " (را: دنتسنغر 1635، ل47، ك26). ويقول القديس توما الاكويني ان الافخارستيا هي
" سر الوحدة الكنسية ". فهي تفترض الاتحاد بالكنيسة وفي الوقت عينه تعبر عن هذا الاتحاد وتعمقه
وبما ان الافخارستيا هي سر الوحدة، فالاحتفال الافخارستي هو امر يتعلق بالرعية المجتمعة معا. فيجب من ثم ألا يحضر المؤمنون الافخارستيا كمشاهدين بُكم. بل عليهم
ان يشاركوا فيها بفاعلية ، وهذا يقتضي منهم السعي الى فهم سر الافخارستيا وادراك ما يجري في الليتورجيا، ويشاركوا فيها بتقوى وفاعلية، جاعلين منها عملا شخصيا ينبع من عمق ذواتهم، فيما يقدمون انفسهم ذبائح حيّة لله (را: ل48). وعن التعليم القائل ان الافخارستيا سر الوحدة ينتج انه لايمكن اقامتها اقامة صحيحة الا على يد كاهن مرسوم رسامة صحيحة (را: دنتسنغر 802، 1771). ان كهنوت الخدمة هو خدمة من اجل الوحدة. الكاهن وحده مؤهل من خلال تكريسه الكهنوتي ان يقول بأسم يسوع المسيح وفي شخصه: "هذا هو جسدي " – " هذا هو دمي ". علاوة على كهنوت الخدمة ينبغي ان يشارك ايضا في الافخارستيا قدر الامكان خدمات اخرى متنوعة: كالشمامسة والقرّاء والخدام والمرتلين الخ. هذا الاتحاد بين كهنوت الخدمة والمشاركين في الجماعة تعبر عنه الصلاة الافخارستية: " لذلك، ايها الآب الصالح، نحتفل، نحن خدّامك وشعبك كله ،بذكرى ابنك ... " (الصلاة الافخارستية الاولى ) .
الاحتفال الافخارستي لكل رعية بمفردها يتم اساسا وبوجه دائم في الشركة مع الكنيسة بأجمعها. والمقياس الحسي للشركة في الكنيسة هو الاتحاد مع الاسقف المحلي، الذي هو نفسه متحد مع سائر الاساقفة ومع اسقف روما، مركز الوحدة الكاثوليكية. هذه العلاقة تعبر عنها الصلاة الافخارستيا بذكرها اسم الاسقف المحلي واسم البابا. ومن يحتفل بالافخارستيا خارج هذه الشركة، فينفصل وينقطع عنها، هذا، على حد قول الآباء، يقيم مذبحا مقابل مذبح. ان قطع الشركة الافخارستية هو قطع لشركة الكنيسة، فالشركة الافخارستية والشركة الكنسية مرتبطتان احداهما بالاخرى ارتباطا لا ينفصم. لذلك يحرض الاسقف الشهيد اعناطيوس الانطاكي: " ومن ثم كونوا متنبهين لإقامة افخارستيا واحدة ". " تمسكوا بالاسقف وبالكهنة وبالشمامسة!... لا تصنعوا شيئا من دون الاسقف ". " الاحتفال بالافخارستيا لا يُسمح به الا متى اقيم بحضور الاسقف او من عهد اليه الاسقف بذلك ".
الاحتفال الافخارستي يفترض المصالحة والشركة داخل الجماعة المحتفلة، ويبعثها في الوقت عينه. وهذا ما تعبر عنه خصوصا قبلة السلام. ومن اجل ذلك عينه كانت مشاركة المائدة الافخارستية في الكنيسة القديمة تجد كمالها في مشاركة الطعام (طعام المحبة agape). ويمكن اليوم الرجوع من جديد الى هذه العادة بطرق متنوعة، وفاقاً لما تقتضيه الظروف المتبدلة. ووحدة الكنيسة التي تدل عليها الافخارستيا هي من جهتها علامة ووسيلة لوحدة البشرية. الافخارستيا هي الخبز من اجل حياة العالم (را: يو6: 33). فيجب من ثم ان يتخطى مفعول الافخارستياالجماعة ليعمل في العالم. وهذا ما تعبّر عنه الصلوات لاجل جميع الناس، ولاسيما المتألمين، وكذلك في ما يجمع من المال من اجل الجماعات الفقيرة ومن اجل الفقراء في العالم، الذين لهم منذ القدم موضعهم الثابت ضمن الافخارستيا. وبالاضافة الى ذلك يزودنا الاحتفال بالافخارستيا ويرسلنا لخدمة المحبة ولعمل المصالحة بين الناس. لايمكننا المشاركة في الخبز الافخارستي ان لم نكن مستعدين لان نشارك ايضا في الخبز اليومي، ونلتزم للعمل من اجل اقامة نظام عادل وأخوي في العالم. بهذا كانت الافخارستيا منبع الخدمة المسيحية في العالم.
3-5- بنية الاحتفال الافخارستي وعناصره وأجزاؤه
ينقسم الاحتفال بالافخارستيا على نحو ما الى قسمين: قسم خدمة الكلمة وقسم الاحتفال الافخارستي بالمعنى الحصري. والقسمان متحدان الواحد منهما بالآخر اتحادا هكذا وثيقا الى حد انهما يؤلفان عمل عبادةٍ واحداً (را: ل56). فالمائدة التي توضع في الافخارستيا هي في أن واحد مائدة كلمة الله ومائدة جسد الرب (را: ول21). والى ذلك يضاف الافتتاح الليتورجي والخاتمة الليتورجية للاحتفال الافخارستي. وعليه تنتج البنية الآتية:
أ- الافتتاح: الدخول، التحية ،الاقرار العام بالذنب، كيريه (يارب ارحم)، المجد لله في العلى، وصلاة اليوم. هذا القسم هو قسم المدخل والاعداد للاحتفال كله.
ب- خدمة الكلمة: تقوم خدمة الكلمة في قراءات من الكتاب المقدس والمزمور الذي يتوسطها. يلي ذلك العظة، وقانون الايمان، والطلبات التي تتوسع في هذا القسم وتختمه.
في القراءات التي تتبعها العظة لتفسيرها، يكلم الله شعبه ويغذي حياته بروحه القدوس. ويسوع المسيح حاضر هو نفسه في وسط المؤمنين. المزمور يمثل جواب الجماعة، الايات التي تتلى على ترنيم " هليلويا " تتضمن تحية الاكرام للرب الحاضر في بشارة الانجيل. قانون الايمان يعبر عن موافقة الجماعة لكلمة الله التي سمعها في القراءات والعظة. واخيرا في الطلبات تمارس الجماعة خدمتها الكهنوتية من خلال صلاتها لاجل جميع الناس ولاسيما المحتاجين منهم.
ج- الاحتفال الافخارستي بالمعنى الحصري: يتضمن ايضا ثلاثة اقسام:
اعداد القرابين، الصلاة الافخارستية، والمناولة.
في اعدادالقرابين، يؤتى بالخبز والخمر والماء الى المذبح مع الترنيم والصلاة.
في الصلاة الافخارستية، صلاة الشكر والتقديس، يبلغ الاحتفال قلبه وذروته.
واهم عناصره: الشكر من اجل عمل الخلاص بأكمله. وهو يجد أقوى طابع له
في المقدمة. في الهتاف الثلاثي " قدوس "، توافق الجماعة كلها وتتحد مع
القوات السماوية في نشيد تسبيحها. في استدعاء الروح القدس، تصلي الكنيسة
الى الآب ليرسل روحه القدوس على القرابين المقدمة، لتصير به جسد يسوع
المسيح ودمه. في رواية التأسيس (كلام التقديس) يصير، من خلال كلام يسوع
وعمله، جسد المسيح ودمه حاضرين في شكلي الخبز والخمر، وتصير حاضرة
بوجه اسراري الذبيحة التي قرّبها مرة وعلى نحو نهائي على الصليب في
الذكر الذي يلي، تذكر الكنيسة الآم يسوع المسيح وقيامته وصعوده الى السماء،
في صلاة التقدمة، تقدم بيسوع المسيح في الروح القدس القرابين لله الآب، في
التذكارات وصلاة الاستشفاع، تعبر الكنيسة عن اقامتها الافخارستيا في الشركة
مع الكنيسة بأجمعها ومع كل جماعة القديسين. والاعلان الاخير الختامي يعرب
ثانية وبايجاز عن تمجيد الله وتسبيحه، ويثبته هتاف الجماعة ويختمه.
قسم المناولة يُستهل بالصلاة الربية. التحية السلامية وكسر الخبز يبينان اننا
نشترك في الخبز الواحد، وننضم بالتالي الى جسد المسيح الواحد. ولذلك تنتهي
صلاة " ياحمل الله " المرافقة لها بالطلبة الآتية:" امنحنا سلامك ". وتختم المناولة
نفسها بصلاة الختام، التي يطلب فيها ان يكون التناول مثمرا.
د – الختام: يُختم الاحتفال الافخارستي بتحية الكاهن وبركته وبدعوة المشتركين الى
الانطلاق، للعودة بالشكر الى الحياة المسيحية اليومية.
صلاة شكر للآب الافخارستيا هي منبع وذروة الحياة المسيحية والكنسية (را:ك11). وقد كانت هكذا منذ جماعة اورشليم الاولى، على حد قول سفر اعمال الرسل: "وكانوا مواظبين على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات " (أع2: 42، را: 46). وكانت الجماعة الاولى تلتئم خصوصا في اليوم الاول من الاسبوع، يوم الرب (را: رؤ1: 10)، لكسر الخبز (را: اع20: 7، 1كو16: 2). وقد قال لنا الاسقف الشهيد اغناطيوس الانطاكي منذ بداية القرن الثاني: ان يكون الانسان مسيحيا يعني ان يعيش " بموجب يوم الاحد ". ومن بعده بقليل ترك لنا الشهيد يوستينوس وصفا معبرا لاحتفالات الافخارستيا كما كانت تجري يوم الاحد في الجماعات المسيحية الاولى: " اما يوم الاحد، فنجتمع فيه كلنا، لانه اليوم الاول الذي فيه خلق الله العلم بتحويل الظلمة والمادة الاصلية، ولان يسوع المسيح مخلصنا، في هذا اليوم، قام من بين الاموات ". وقد بقي هذا الامر في الاساس الى يومنا. فالاحتفال بافخارستيا يوم الاحد هو التعبير الاهم عن الحياة المسيحية وعن حياة الجماعة المسيحية (را: ل106). ولكن الاحتفال بالافخارستيا ايضا في ايام الاسبوع له للفرد كما للجماعة اهمية كبيرة. هذه المكانة المركزية للافخارستيا قد عملت الحركة الليتورجية في القرن الحالي على وعيها مجددا. فتجديد الاحتفال الليتورجي بالافخارستيا الذي بوشر به على عهد البابا بيوس الثاني عشر، واثبته المجمع الفاتيكاني الثاني (را:ل47- 49)، واكتمل في كتاب القداس الجديد الذي وضعه البابا بولس السادس سنة 1969، يقتضي من كل الجماعة كلها اسهاما شخصيا عميقا ومشاركة اساسية في الاحتفال. فيمكن من ثم وصف تعزيز الليتورجيا وتجديدها في عصرنا بأنها " علامة التفات من عناية الله "، و " مرور للروح القدس بكنيسته " (ل43).
لفهم الافخارستيا في عمق جوهرها، يجب ان نتساءل عن مصدرها في يسوع المسيح، وخصوصا عن علاقتها بكرازة يسوع بملكوت الله، وبموته وقيامته. ذلك ان الممارسة الافخارستية القائمة في الكنيسة منذ البدء تعود الى يسوع المسيح نفسه، وهو الذي اسسها. وبالتفصيل يمكننا ان نتكلم على تأسيس الكنيسة من قبل يسوع المسيح على ثلاث مراحل: فقد اعد لها في الطعام المشترك الذي كان يسوع يتناوله في اثناء حياته على الارض، وتأسست في اثناء عشاء يسوع الاخير في ليلة موته، وتثبتت في ترائيات المسيح القائم من بين الاموات بالارتباط مع اجتماعات تلاميذه للطعام.
ان الاطعمة المشتركة التي كان يسوع يتناولها مع تلاميذه في اثناء حياته على الارض كانت احتفالات تمهيدية وتذوقا مسبقا لطعام الزمن الاخير الذي وعد به الانبياء، لوليمة العرس السماوية. وقد كانت في الوقت عينه دلائل عن تقبل الضالين في شركة الخلاص النهائية. فتمجيد الله وغفران الخطايا يرتبط احدهما بالاخر منذ ذلك الحين. ومن ثم فقد كانت ولائم يسوع علامات للخلاص في اخر الازمان الذي بدأ، وللشراكة الجديدة مع يسوع ولشراكة الناس بعضهم مع بعض. –اما العشاء الاخير الذي تناوله يسوع مع تلاميذه في ليلة الآمه، فقد كان له طابع خاص. فما فعله الرب في الليلة التي اسلم فيها كان امرا جديدا. فلدى صلاة التسبيح والشكر، في حركة توزيع للخبز والخمر وما رافقها من كلمات معبرة، استبق يسوع بذل ذاته للموت " من اجل الكثيرين "، واشرك في هذا البذل تلاميذه. ورأى في الوقت عينه موته الآتي في ضوء مجيء ملكوت الله النهائي: "الحق اقول لكم: اني لن اشرب بعد من ثمر الكرمة، الى اليوم الذي اشربه فيه جديدا في ملكوت الله" (مر14: 25). – وبصليب يسوع وقيامته تثبتت الكلمات التي قالها في العشاء الاخير. ومن بعد قيامته، تراءى ايضا لتلاميذه في اوقات تناول الطعام. وقد وصف هذا وصفا مؤثرا جدا في لقاء التلميذين مع يسوع على طريق عماوس، اذ عرفاه عند كسر الخبز (را: لو24: 13-35، را:63- 43، يو21: 1-14). وكان ايضا كسر الخبز هذا يتسم في الجماعة الاولى بالسعادة الاخروية (اع 2: 46).
ينجم عن هذا بالنسبة الى مفهوم الافخارستيا ان ولائم يسوع في حياته على الارض وعشاءه الاخير وولائم الجماعة الاولى الافخارستية تقع كلها في ظل علامة مجيء ملكوت الله. الاحتفال بالافخارستيا هو علامة سابقة لوليمة العرس السماوية (را: رؤ19: 9). لذلك يتسم كل احتفال افخارستي بطابع القيامة. ومنذ ايام الكنيسة الاولى، نحتفل بالافخارستيا في يوم الاحد،على انه اليوم الذي فيه قام المسيح من بين الاموات (الصلاة الافخارستية الاولى والثانية والثالثة في الطقس اللاتيني). ومن ثم الافخارستيا هي استعجال للاشتراك في الوليمة السماوية وتذوق مسبق للمجد الآتي. انها علامة الوعد والرجاء بالخليقة الجديدة الممجدةوالمعتقة من كل عبودية. فيها يعلن ويعاش مسبقا بشكل علامة ما سوف يكون يوما عندما يصير الله كلاً في الكل (را: 1كو15: 28). ومن ثم فمن ياكل من هذا الخبز الافخارستي له منذ الان الحياة الابدية، وسوف يقيمه الرب في اليوم الاخير(را: يو6: 54).
الافخارستيا هي، على غرار المن في العهد القديم، غذاء شعب الله في العهد الجديد وزاد مسيرته (را:1كو10: 3-4). بيد ان المن في الصحراء لم يكن سوى علامة سابقة لخبز الله الحقيقي النازل من السماء والذي يعطي الحياة للعالم (را: يو6: 33). فمن ياكل من هذا الخبز لن يرى الموت ابدا (را: يو6: 49-50، 58).
ولان في الافخارستيا نحتفل بالتحرير الفصحي من قوة الموت وبعطية الحياة الجديدة الابدية، فالافخارستيا هي اكثر من مجرد طعام. انها " ذبيحة التسبيح " (الصلاة الافخارستية الاولى، را: عب13: 15)، التي تستحضر ذبيحة يسوع الواحدة التي تمت على الصليب وتجعلنا نحيا مسبقا المجد الآتي. لذلك ندعوها منذ القرن الثاني افخارستيا اي صلاة الشكر. فيها نقدم لله الآب التسبيح والشكر على كل ما وهبنا اياه في الخلق والخلاصز ومن ثم فما تعنيه انماهو الخلاص والحياة في عبادة الله وتمجيدةز هذا الحمد نعبرعنه خصوصا في مقدمة القداس وفي ترنيمة " قدوس ". وفي ختام الصلاة الافخارستية نوجزه في التسبيح الكبير:
" به ومعه وفيه،
لك، ايها الاله، الاب القدير،
في وحدة الروح القدس،كل تمجيد واكرام،
الان والى الابد ".
ويعبر ايضا عن السعادة في الآخرة التراتيل والثياب المقدسة، وطابع العيد والابتهاج، والرسوم الدينية، وسائر ما يزدان به الاحتفال بالافخارستيا.وفي عصرنا بالذات، المنشغل بالعمل والكسب والانتاج، فالاعياد والاحتفالات المجانية في داخل العالم هي علامات هامة تشير الى العالم الجديد الذي هو موضوع رجائنا. اليوم بالذات نحن بحاجة الى ثقافة متجددة ومشبعة بروحانية يوم الاحد، يقوم في وسطها الاحتفال بالافخارستيا (را: السينودس الالماني العام: العبادة 2). فالاحتفال الحقيقي، الذي هو اكثر من ضجيج وتسلية، يشترط اليقين بان قوة الشر والموت قد غلبت. وهكذا يصح، في الافخارستيا، الفرح والشكر لفصح يسوع المسيح، اعني لعبوره من الموت الى الحياة، الذي يضمنا اليه هذا الاحتفال. وفي الافخارستيا نوهب ايضا الشجاعة والرجاء للثبات الى النهاية في كل اوهان الالم والجهاد. وهذا ما كانت تصلي من اجله الكنيسة الاولى في الاحتفال بالافخارستيا:
" انت، ايها السيد القدير، خلقت كل شي من اجل اسمك، واعطيت البشر طعاما وشرابا، لينعموا بهما ويقدموا لك الشكر، اما نحن فقد اعطينا طعاما وشرابا روحيين، والحياة الابدية، بيسوع فتاك.
ونشكر لك خصوصا انك انت القدير. لك المجد الى الابد.
اذكر، يارب، كنيستك، نجها من كل شر، وكملها في محبتك.
اجمعها من الرياح الاربع، وقدسها، وابلغها ملكوتك الذي اعددته لها.
لان لك القدرة والملك الى الابد.
لتأت النعمة وليمض هذا العالم!
هوشعنا لابن داود... مارانا تا (تعال، ايها الرب ).
امين " ( تعليم الرسل 10: 3-6).
3-2- حضور يسوع المسيح الافخارستي
ان ملكوت الله، الذي كرز به يسوع ووعد به، قد صار حاضرا في اقوال يسوع المسيح وعمله وشخصه. ومن ثم فاستعجال الملكوت الذي يحتفل به في الافخارستيا يتم بحضور يسوع المسيح نفسه.
ان حضور يسوع المسيح نفسه يتم في الاحتفال الافخارستي بطرق متنوعة: فيسوع المسيح حاضر في الجماعة المحتفلة، على حد قوله: " حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي فأنا اكون هناك في وسطهم " (متى18: 20).
ويسوع المسيح حاضر في كلمته وفي شخص من يقوم بالخدمة الكهنوتية. فيسوع المسيح نفسه هو الذي يكلمنا، وهو الذي يدعونا الى وليمته الافخارستية ويعمل في الافخارستيا، وهو الذي يبذل نفسه للآب ويهبنا ذاته. ولكن يسوع المسيح حاضر حضورا خاصا في الافخارستيا، في انه، بتلاوة صلاة الحمد الافخارستي على الخبز والخمر لتقديسهما، يصير يسوع المسيح بقدرة هذه الكلمات حاضرا حضورا حقيقيا وواقعيا وجوهريا تحت الاشكال الافخارستية ( را: ل7). ان حضور يسوع المسيح الحقيقي هذا هو قلب الافخارستيا، التي تكمن اوليتها على سائر الاسرار في انها لا تهبنا ثمرة الخلاص وحسب، بل منبع الخلاص، يسوع المسيح نفسه، الذي يتحقق حضوره فيها بوجه خاص ومميز.
ان حضور يسوع المسيح الحق والحقيقي في اشكال الخبز والخمر يرتكز، بحسب ايمان الكنيسة، على قول يسوع: " هذا هو جسدي " – " هذا هو دمي " (مر14: 22، 24إز).
" الجسد " لايعني ، في الاستعمال السامي، جزءا من الانسان وحسب ،بل الشخص بكامله في جسدانيته الحسية. فعندما نسمع القول التالي: "هذا هو جسدي لاجلكم " (1كو11: 24)، اي "هذا هو جسدي الذي يبذل لاجلكم " (لو22: 19)، فمن الواضح ان الامر يتعلق بحضور شخص يسوع المسيح في بذل ذاته من اجلنا. وعلى النحو نفسه تعني لفظة "الدم"، في المفهوم السامي، جوهر الحياة لدى الانسان.
فالدم " الذي يهراق عن الكثيرين " (متى26: 28) يعني من ثم يسوع نفسه في بذل حياته من اجلنا. وفيما تردد الكنيسة هذه الكلمات التي قالها الرب في الوصية التي تركها لنا قبل موته، فهي لا تروي ماجرى في العشاء الاخير وحسب، بل تكرز ايضا " بموت الرب الى ان يأتي " (1كو11: 26). هذه الكرازة تعني قولا رسميا يتمم ما ينطق به. ومن ثم فسرد رواية تأسيس الافخارستيا هي صلاة تقديس تُتلى على الخبز والخمر باسم يسوع المسيح وفي شخصه، بها يصير حاضرا في اشكال الخبز والخمر جسد يسوع المسيح ودمه، أعني شخص يسوع المسيح الجسداني المحسوس، في بذل ذاته من اجلنا.
ان استحضار يسوع المسيح في الافخارستيا ليس عملا سحريا او ألياً. بل يتم بالحري من خلال صلاة استدعاء الروح القدس (الإبيكليسيس ) التي ترفع باسم يسوع المسيح الى الله الآب. كل ما فعله يسوع في حياته انما فعله في الروح القدس، وفيه خصوصا قرّب ذاته ذبيحة (را: عب9: 14). وبالروح القدس، يبقى حاضرا على الدوام في الكنيسة وفي العالم. وحضور يسوع الافخارستي يتم ايضا بقدرة الروح القدس. لذلك يصلي الكاهن قبل تلاوة كلمات التأسيس:
" ارسل روحك القدوس على هذه القرابين وقدسها، لكي تصير لنا جسد ودم ابنك يسوع المسيح ربنا " (الصلاة الافخارستية الثانية).
ضد ما حدث في التاريخ من اساءة فهم، كان على الكنيسة ان تؤكد من جهة حضور يسوع المسيح الحقيقي والجوهري، وتعلن من جهة اخرى ان هذا الحضور هو " سر ايمان " فريد ولا مثيل له. ولا ثبات حقيقة حضور يسوع المسيح الافخارستيا وفي الوقت عينه سرية هذا الحضور، استعمل المجمع اللاتراني الرابع (سنة 1215) والمجمع التريدنتيني (سنة 1551) مفهوم التحول الجوهري. وعاد في العصر الحديث البابا بيوس الثاني عشر والبابا بولس السادس، فأكد هذا التعبير وثبتاه (را: دنتسنغر 3891).
" ان سر المذبح يتضمن حقا جيده ودمه في اشكال الخبز والخمر، بعد ان يتحول تحولا جوهريا، بقدرة الله، الخبز الى الجسد والخمر الى الدم " (را: دنتسنغر 802).
تعلم الكنيسة وتعترف " علنا وبدون تراجع ان ربنا يسوع المسيح، الإله الحقيقي والانسان الحقيقي، بعد تكريس الخبز والخمر، هو حاضر حضورا حقيقيا وجوهريا في اشكال هذه الاشياء المنظورة " (را: دنتسنغر 1636).
" بتكريس الخبز والخمر يتم تحول جوهر الخبز بكامله الى جوهر جسد المسيح ربنا، وجوهر الخمر بكامله الى جوهر دمه. وهذا التحول تدعوه الكنيسة بحق وبالمعنى الحصري للفظة تحولا جوهريا " (را: دنتسنغر 1642).
ان تعليم التحول الجوهري لا يقصد تقديم تفسير عقلي لسر الافخارستيا الذي لايمكن ادراكه إلا بالايمان. انما القصد منه الحفاظ على معنى كلمات التأسيس التي نطق بها يسوع، وذلك ضد التفسيرات المنحازة لها. فيثبت هذا التعليم ان حضور المسيح الحقيقي والجوهري لا يغير شيئا مما يمكن اختباره من مظهر الخبز والخمر (في ما يختص بالحجم والرائحة والطعم والتركيب الكيميائي .. الخ)، وان حضور المسيح في الافخارستيا لا يجوز بالتالي فهمه بالمعنى المكاني.
ان الايمان بحضور يسوع المسيح الحقيقي في الافخارستيا لا يتعلق من ثم بمجال ما يخضع للمراقبة كما في العلوم الطبيعية، ولا بما تدعوه العلوم الطبيعية جوهرا. ان الاشياء، حتى على الصعيد الطبيعي، هي اكثر مما يمكن ادراكه او قياسه او احصاؤه. وحضور المسيح يتعلق بجوهر الخبز والخمر الذي يتخطى ادراك الاختبار البشري. في الافخارستيا يفقد الخبز والخمر تحديد ما هما عليه وما يعنيان من الناحية الطبيعية، اعني كونهما غذاء جسديا، وينالان تحديدا جديدا كيانهما ولمعناهما. اذ يصيران علامة حسية لحضور يسوع المسيح الشخصي ولعطاء ذاته الشخصي. في علامة الخبز والخمر الحسية تتجسد محبة يسوع المسيح التي تشاركنا حياتنا وتهبنا ذاتها، بحيث ان يسوع المسيح، في هذه الاشكال، هو حاضر في بذل ذاته " من اجلنا ". ومن ثم فما تقصد عبارة " التحول الجوهري " اثباته هو انه في الافخارستيا، في علامة الخبز والخمر، تصير حاضرة حقيقة جديدة، بل الحقيقة الجديدة.
ان عمل الله في يسوع المسيح يحدث بوجه نهائي. وهذا مايعبرعنه استمرار حضور يسوع المسيح في الافخارستيا بعد الانتهاء من الاحتفال الافخارستي. وقد تمسكت الكنيسة الكاثوليكية على الدوام باستمرار حضور يسوع المسيح الافخارستي. وهذا ما تعبر عنه العادة القديمة التي تقضي بالاحتفاظ بإكرام بالاجزاء المتبقية من الاحتفال الافخارستي، واعطاء المناولة للمرضى خارجا عن الاحتفال الافخارستي (را: دنتسنغر 1645). فالمعنى الاصلي والاول للاحتفاظ بالقربان المقدس هو من ثم مناولة المرضى واعطاء الزاد الاخير للمُدنِفين. والهدف الثاني توزيع المناولة خارج الاحتفال الافخارستي، وعبادة الرب الحاضر على الدوام في الاشكال الافخارستية. ومن سبل التعبد الافخارستي خارجا عن الليتورجيا الافخارستية، ثم خصوصا السجود للقربان المقدس والتطواف بالقربان المقدسز ولاسيما في عيد الجسد الالهي، وكذلك الصلاة الفردية امام اقدس الاقداس. وقد انتشرت هذه العبادات في القرون الوسطى، وتجد معناها في سياق الاستعداد للاحتفال الافخارستي وفي نتائجه، وبنوع خاص في المناولة (را: دنتسنغر 1643، ل47). فمتى فهمت هذه الصيغ المتنوعة للعبادة الافخارستية على هذا النحو، إذاك يكون لها معنى دائم في الكنيسة (را: دنتسنغر 1644). ومن ثم فهي بحاجة الى العناية والتنشيط في حياة كل جماعة وكل فرد.
ولقد عبر توما الاكويني بتعابير رائعة عن فحوى ايمان الكنيسة بالافخارستيا في اناشيد عيد الجسد الشهيرة : " سبحي يا صهيون" (كتاب الترانيم 545)،
" ليعلن كل لسان" (كتاب الترانيم 543 – 544)، اعبدك خاشعا (كتاب الترانيم 546):
" اعبدك خاشعا، الهي المحتجب.
في هذه العلامات انت حقا هناز
بكل قلبي اهبك ذاتي،
فأمام هذا السر ما انا الا فقير.
عيناي وفمي ويداي تخطىء فهمك،
لكن بشرى الكلمة تكشف لي سرك.
ما قاله ابن الله اتقبله مؤمنا،
فهو نفسه الحق الذي لاخداع فيه ".
3-3- الافخارستيا ذكرى ذبيحة يسوع المسيح
ان ملكوت الله، الذي ندركه مسبقا في الليتورجيا الافخارستية، ونتناول عطية منذ الان في المناولة الافخارستية، قد بدأ في تجسد يسوع المسيح وموته وقيامته. ومن ثم فحضور يسوع المسيح في الافخارستيا لا يعني حضور شخصه وحسب، بل ايضا حضور عمله الخلاصي، ولاسيما ذبيحته على الصليب. هذا ما نعنيه عندما نتكلم على ذبيحة القداس، او على طابع الذبيحة الذي تتسم به الافخارستيا.
ان طابع الذبيحة الذي تتسم به الافخارستيا قد اشار اليه العهد الجديد في قول السيد المسيح على الكأس في انجيل متى: " هذا هو دمي، دم العهد (الجديد)، الذي يهراق عن الكثيرين لمغفرة الخطايا " (متى26: 28). هذا القول مرتبط ارتباطا حميما برواية العهد القديم التي تخبر بان موسى لدى تقدمة الذبيحة على جبل سيناء، رش نصف الدم على المذبح والنصف الاخر على الشعب قائلا: " هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الاقوال " (خر24: 8).
لفهم هذه الاقوال فهما أعمق، يجب التنبه الى مفهوم الذبائح السائد في سائر الاديان في تبدل تبدلا اساسيا منذ انبياء العهد القديم انفسهم وبنوع خاص في العهد الجديد. فلم يعد الامر يتعلق بذبائح خارجية، فهذه لايمكن ان تكون الا علامات لذبيحة تقدمة الذات الشخصية. في هذا المعنى تضع الرسالة الى العبرانيين على لسان يسوع لدى دخوله العالم القول التالي: " ذبيحة وقربانا لم تشأ، غير انك هيأت لي جسدا، لم ترتض محرقات ولا ذبائح خطيئة، حينئذ قلت: ها انذا آتي – اذ عني قد كتب في درج الكتاب – لأعمل، يا الله، بمشيئتك " (عب10: 5-7: را: مز40: 7-9، 15: 18-19). ومن ثم فان يسوع لا يقدم على الصليب شيئا ما، بل " يقدم نفسه لله ذبيحة " (أف5: 2). وبخلاف العهد القديم، لم يقرب المسيح ذبائح كثيرة، بل قرب ذبيحة واحدة، تبقى فاعليتها على الدوام (را: عب9: 11-28، 10: 10، 14).
ان استحضار ذبيحة المسيح الواحدة يطبق وصية الرب : " اصنعوا هذا لذكري " (لو22: 19، 1كو11: 24، را: 25). الذكر، في مفهوم الكتاب المقدس، لايعني مجرد تذكر لحدث ماض بل بالحري تسبيح عظائم الله التي يجعلها الاحتفال الليتورجي حاضرة هنا وفي هذه اللحظة (را: خر13: 3). على هذا النحو احتفل اسرائيل في وليمة الفصح بذكر تحريره من ارض مصر. وللذكر في العهد الجديد معنى جوهري اكثر عمقا. فالكنيسة في تقديمها ذبيحة التسبيح الافخارستية تذكر بالشكر وبعلامات الخبز والخمر تحريرها من قوة الخطيئة والموت، الذي تم لها بصليب يسوع وقيامته. فمن خلال احتفال الافخارستيا نعلن موت الرب (را: 1كو11: 26). ومن ثم فان ذبيحة يسوع على الصليب، بل كل عمل الخلاص الذي أجراه يسوع المسيح يصير حاضرا حضورا سريا في الافخارستيا من خلال الكلمة والعلامات الاسرارية. ان الصلوات الاساسية في الليتورجيا تبين هذه الناحية بكل الحاحز فمباشرة بعد النصوص التي تحيي ذكرى العشاء السري وانشاء القربان المقدس تجهر جماعة المصلين او الكاهن المحتفل بالهتاف التالي:
" اننا نعلن موتك، يارب،
ونسبح قيامتك،
الى ان تأتي بمجد ".
" لذلك، ايها الآب الصالح، نحتفل.... بذكر ابنك، يسوع المسيح ربنا. فنعلن الآمه الخلاصية، وقيامته من بين الاموات، وصعوده المجيد الى السماءز ومن هذه القرابين التي منحتنا اياها، نقدم لك... الذبيحة الطاهرة المقدسة التي لا عيب فيها " (الصلاة الافخارستية الاولى).
ان العلاقة بين ذبيحة الصليب وذبيحة القداس كثيرا ما اسىء فهمها في اواخر العصر الوسيط، والى ذلك ارتكبت أخطاء غشت المفهوم الصحيح لذبيحة الصليب. مما حمل المصلحين على انكار طابع الذبيحة الذي يسِم الافخارستيا انكارا جذريا. وقالوا ان هذا التعليم ينتج عنه شك في فرادة ذبيحة الصليب. ووصفوا القداس بانه اكبر الفظاعات واشدها هولا (البنود الشمالكلدية)، وبانها عبادة اوثان (تعليم هايدلبرغ). فكان على المجمع التريدنتيني، ردا على تلك التهجمات، ان يصيغ صياغة جديدة الافكار الرئيسية التي بامكانها ان تحسم الموضوع. فاعلن تمسكه بفرادة ذبيحة الصليب، وعبر عن العلاقة بين ذبيحة الصليب وذبيحة القداس في ثلاثة مفاهيم: ذبيحة القداس هي اولا عملا اسراري يستحضر ذبيحة الصليب، ويعيد ذكرها ويطبقها (را: دنتسنغر 1740). ومن ثم فالافخارستيا ليست ذبيحة جديدة ولا ذبيحة مستقلة، لتحل محل ذبيحة الصليب ولاحتى لتكملها. بل هي عمل اسراري يستحضر ذبيحة الصليب التي حدثت مرة واحدة على نحو نهائي:
" فثمة ذبيحة واحدة، وهي هي نفسها،وثمة واحد، وهو نفسه يقرب اليوم بوساطة الكاهن، كما قرب ذاته آنذاك على الصليب، وما يختلف انما هو طريقة التقديم" (را: دنتسنغر 1743).
تقوم اليوم مبادرات مسكونية لتبديد ما ساد قديما من جدل واساءة فهم في هذه المسألة، بغية الوصول الى مفهوم مشترك فيها (را: عشاء الرب، وثيقة ليما، تقرير فريق العمل المسكوني الالماني "ذبيحة يسوع المسيح والكنيسة "، "شركة الكنائس في الكلمة والاسرار".
وقد ساعدت مساعدة خاصة في هذا الموضوع العودة ثانية الى مفهوم الذكرى في الكتاب المقدس، على انه يجعلحاضرا اليوم عملا خلاصيا من اعمال الماضي. وهذه الفكرة اساسية في النصوص الليتورجية. وقد استوحاها المجمع الفاتيكاني الثاني (را:ل47، ن ر14).
المسألة المسكونية الحقيقية هي هل الافخارستيا، بفعل كونها سرا يستحضر ذبيحة يسوع المسيح الواحدة والوحيدة، هي في آن معا ذبيحة الكنيسة، والى اي مدى هي كذلك. بحسب المفهوم الكاثوليكي، ان يسوع المسيح، لكوننا بالمعمودية صرنا جسده المرتبط به، يدخلنا ايضا في ذبيحته. وبما ان الجماعة المسيحية انضمت بالمعمودية الى سر فصح المسيح (را:ل6)، فيمكنها وعليها ان تقدم ذاتها ذبيحة حية مقدسة (را:رو12: 1، ل48). لذلك نصلي في صلاة الافخارستيا قائلين: "فليجعلنا على الدوام قربانا لرضاك "( الصلاة الافخارستية الثالثة). في الافخارستيا، يقدم الرب المرتفع الىالسماء ذبيحته من خلال خدمة الجماعة الملتئمة في الليتورجيا ومن خلال ذبيحة التسبيح التي تقدمها. ومن ثم فالافخارستيا هي، في الوقت عينه، " في المسيح ومعه وبه"، ذبيحة الكنيسة. فذبيحة التسبيح والشكر التي تقدمها الكنيسة هي على نحو ما الصورة الاسرارية لحضور ذبيحة يسوع المسيح الواحدةز وبذلك فالافخارستيا هي موجز العبادة الالهية التي تقوم بها الحياة المسيحية، وذروتها وملؤها. انها التعبير الاسمى عن اكرام الله، وهي ايضا منبع التزام حياتنا في سبيل الاخوة والاخوات. وان كان ذلك ممكنا، فلأننا، في الافخارستيا، " نصير جسدا واحدا وروحا واحدا في المسيح " (صلاة الافخارستيا الثالثة ).
ان الافخارستيا، من خلال استحضار ذبيحة يسوع المسيح الواحدة الذي يتم اسراريا في الاحتفال الليتورجي، ومن خلال هذا الاحتفال عينه، هي في آن واحد ذبيحة تسبيح وذبيحة شفاعة وتكفير عن الخطايا. انها تقام " لمغفرة الخطايا " (متى26: 28). فهي تغفر الخطايا اليومية وتساعد على تجنب الخطايا الثقيلة. ويمكن اقامتها ايضا للشفاعة من اجل جميع الناس. هذه الممارسة في صلاة الشفاعة في الافخارستيا نشهدها منذ الكنيسة القديمة، وخصوصا في الدياميس المسيحية القديمة. ولايزال اليوم يرد ذكر الاحياء والاموات في الصلاة الافخارستية. فكل احتفال افخارستي انما يتم داخل " شركة القديسين " باجمعهاز ومن ثم يمكن اقامته باسم كل اعضاء جسد المسيح وللشفاعة فيهمز وللسبب عينه نذكر ايضا في اقامة الافخارستيا اعضاء جسد المسيح الذين انتقلوا للاشتراك في السعادة السماوية، اعني القديسين.
وعندما نحتفل بالافخارستيا اكراما لهم، انما نقصد بذلك تقديم الشكر لله لما انعم به عليهم من نعمة وتمجيد. وفي الوقت عينه نطلب شفاعتهم وحمايتهم.
3-4- الافخارستيا سر الوحدة والمحبة
ان الاحتفال بالافخارستيا، الذي هو احتفال سابق بوليمة العرس السماوية، يختتم ويكتمل بالمناولة الافخارستية. هذه الناحية قد عبر عنها بوضوح الاصلاح الليتورجي الذي عقب المجمع الفاتيكاني الثاني. فبتغيير مكان المذبح، الذي أفسح في المجال للاحتفال بالافخارستيا وجها لوجه للشعب، صارت الجماعة تلتئم حول المذبح كما حول المائدة. هذه الاشكال هي صورة للحدث الداخلي الذي يجري في الافخارستيا: أعني اتحاد كل شخص بيسوع المسيح، واتحاد كل واحد بالاخرين في يسوع المسيح.
ان ثمرة تقبل الافخارستيا في المناولة هي خصوصا الاتحاد العميق بيسوع المسيح. بتناول الاشكال الافخارستية يأتي المسيح بكامله ليقيم فينا، ونحن بكاملنا نقيم فيه.
" من ياكل جسدي ويشرب دمي،
يثبت فيّ وانا فيه " (يو 6: 56).
ان ما يعنيه الطعام الجسدي لحياة الجسد، هذا ما يفعله تناول الافخارستيا لحياة الروح: فهو يغذيها وينشطها ويجددها ويبهجها (را: دنتسنغر 1322).
بالدخول في شراكة المسيح بالمناولة، تزداد فينا حياة النعمة الجديدة، وتشفى امراض الخطيئة، ونتقوى لمقاومة الخطيئة. وفي الوقت عينه نتناول عربون السعادة السماوية والحياة الابدية الآتية (را: يو6: 54). لذلك نقرأ في الانديفونا التي تلي نشيد العذراء "تعظم نفسي الرب"، في عيد الجسد الالهي:
" ايتها المائدة المقدسة، التي فيها المسيح طعامنا، يا ذكرى الآمه، وملء النعمة، وعربون المجد الاتي " (را:ل47).
ان تعليم الكنيسة وممارستها يميزان نوعين من المناولة: المناولة التي هي في آن واحد اسرارية وروحية، والتي نتناول فيها جسد المسيح جسديا وفي الوقت عينه نتقبله بقلب مستعد، والمناولة الروحية المحض، اعني الاتحاد بيسوع المسيح من خلال رغبة التناول المفعنة ايمانا (را:دنتسنغر 1648). أما تقبل المناولة بطريقة غير لائقة من قبل خاطىء غير مستعد للاتحاد بيسوع المسيح، فلا ينتج منه الخلاص بل الدينونة.
ومن ثم فلتقبل المناولة المناولة تقبلا يثمر ثمارا روحية، يجب فحص الضمير والاستعداد للمناولة باعتناء، على حد قول بولس الرسول: "ومن ثم، فأي انسان يأكل خبز الرب او يشرب كأسه بلا استحقاق، يكون مجرما الى جسد الرب ودمه. فليختبر الانسان اذن نفسه، وعندئذ فقط، فليأكل من الخبز ويشرب من الكأس. لان من يأكل ويشرب بلا استحقاق، انما يأكل ويشرب دينونة بنفسه، اذ لم يميز جسد الرب " (1كو11: 27- 29). في ليتورجيا القديس يوحنا ذهبي الفم (الشرقية)، يهتف الكاهن بالمؤمنين قبل توزيع المناولة : "الاقداس للقديسين". فالمسيحي القائم في حالة الخطيئة المميتة ملزم، قبل التقدم الى المناولة، ان امكنه، ان يتقدم اولا من سر التوبة (را: دنتسنغر 1646- 1647). وللسبب عينه يستهل كل احتفال بالافخارستيا بفعل توبة لغفران الخطايا اليومية. والمهم في الامر هو المصالحة مع الاخرين (را: متى5: 23- 24). وكذلك الصوم قبل المناولة الافخارستية، الذي كانت قاعدته شديدة وصارت اليوم اكثر ليونة، فهو في خدمة هذا الاستعداد اللائق. ومن يتقدم الى المناولة، فعن قول الكاهن: "جسد المسيح" ، يجيب: "آمين". وهو يقصد بهذا الجواب: "نعم، اؤمن، اني مستعد بالايمان لتقبل جسد المسيح".
الافخارستيا لاتميز وتتم اتحاد المؤمن الفرد بالمسيح وحسب، بل ايضا اتحاد جميع المؤمنين، وحدة الكنيسة في يسوع المسيح. بالاشتراك في جسد المسيح الافخارستي الواحد. ننضم كلنا الى جسد المسيح الواحد، الى الكنيسة:
" فبما ان الخبز واحد، فنحن الكثيرين جسد واحد، لانا جميعا نشترك في الخبز الواحد" (1كو10: 17).
يرى آباء الكنيسة في اعداد الخبز من حبات القمح الكثيرة، والخمر من عناقيد العنب الكثيرة صورة لاتحاد جميع المؤمنين بالمناولة في جسد المسيح الواحد. استنادا الى القديس اوغسطينوس يصف تعليم الكنيسة الافخارستيا بأنها " علامة الوحدة " ، "رباط المحبة " (را: دنتسنغر 1635، ل47، ك26). ويقول القديس توما الاكويني ان الافخارستيا هي
" سر الوحدة الكنسية ". فهي تفترض الاتحاد بالكنيسة وفي الوقت عينه تعبر عن هذا الاتحاد وتعمقه
وبما ان الافخارستيا هي سر الوحدة، فالاحتفال الافخارستي هو امر يتعلق بالرعية المجتمعة معا. فيجب من ثم ألا يحضر المؤمنون الافخارستيا كمشاهدين بُكم. بل عليهم
ان يشاركوا فيها بفاعلية ، وهذا يقتضي منهم السعي الى فهم سر الافخارستيا وادراك ما يجري في الليتورجيا، ويشاركوا فيها بتقوى وفاعلية، جاعلين منها عملا شخصيا ينبع من عمق ذواتهم، فيما يقدمون انفسهم ذبائح حيّة لله (را: ل48). وعن التعليم القائل ان الافخارستيا سر الوحدة ينتج انه لايمكن اقامتها اقامة صحيحة الا على يد كاهن مرسوم رسامة صحيحة (را: دنتسنغر 802، 1771). ان كهنوت الخدمة هو خدمة من اجل الوحدة. الكاهن وحده مؤهل من خلال تكريسه الكهنوتي ان يقول بأسم يسوع المسيح وفي شخصه: "هذا هو جسدي " – " هذا هو دمي ". علاوة على كهنوت الخدمة ينبغي ان يشارك ايضا في الافخارستيا قدر الامكان خدمات اخرى متنوعة: كالشمامسة والقرّاء والخدام والمرتلين الخ. هذا الاتحاد بين كهنوت الخدمة والمشاركين في الجماعة تعبر عنه الصلاة الافخارستية: " لذلك، ايها الآب الصالح، نحتفل، نحن خدّامك وشعبك كله ،بذكرى ابنك ... " (الصلاة الافخارستية الاولى ) .
الاحتفال الافخارستي لكل رعية بمفردها يتم اساسا وبوجه دائم في الشركة مع الكنيسة بأجمعها. والمقياس الحسي للشركة في الكنيسة هو الاتحاد مع الاسقف المحلي، الذي هو نفسه متحد مع سائر الاساقفة ومع اسقف روما، مركز الوحدة الكاثوليكية. هذه العلاقة تعبر عنها الصلاة الافخارستيا بذكرها اسم الاسقف المحلي واسم البابا. ومن يحتفل بالافخارستيا خارج هذه الشركة، فينفصل وينقطع عنها، هذا، على حد قول الآباء، يقيم مذبحا مقابل مذبح. ان قطع الشركة الافخارستية هو قطع لشركة الكنيسة، فالشركة الافخارستية والشركة الكنسية مرتبطتان احداهما بالاخرى ارتباطا لا ينفصم. لذلك يحرض الاسقف الشهيد اعناطيوس الانطاكي: " ومن ثم كونوا متنبهين لإقامة افخارستيا واحدة ". " تمسكوا بالاسقف وبالكهنة وبالشمامسة!... لا تصنعوا شيئا من دون الاسقف ". " الاحتفال بالافخارستيا لا يُسمح به الا متى اقيم بحضور الاسقف او من عهد اليه الاسقف بذلك ".
الاحتفال الافخارستي يفترض المصالحة والشركة داخل الجماعة المحتفلة، ويبعثها في الوقت عينه. وهذا ما تعبر عنه خصوصا قبلة السلام. ومن اجل ذلك عينه كانت مشاركة المائدة الافخارستية في الكنيسة القديمة تجد كمالها في مشاركة الطعام (طعام المحبة agape). ويمكن اليوم الرجوع من جديد الى هذه العادة بطرق متنوعة، وفاقاً لما تقتضيه الظروف المتبدلة. ووحدة الكنيسة التي تدل عليها الافخارستيا هي من جهتها علامة ووسيلة لوحدة البشرية. الافخارستيا هي الخبز من اجل حياة العالم (را: يو6: 33). فيجب من ثم ان يتخطى مفعول الافخارستياالجماعة ليعمل في العالم. وهذا ما تعبّر عنه الصلوات لاجل جميع الناس، ولاسيما المتألمين، وكذلك في ما يجمع من المال من اجل الجماعات الفقيرة ومن اجل الفقراء في العالم، الذين لهم منذ القدم موضعهم الثابت ضمن الافخارستيا. وبالاضافة الى ذلك يزودنا الاحتفال بالافخارستيا ويرسلنا لخدمة المحبة ولعمل المصالحة بين الناس. لايمكننا المشاركة في الخبز الافخارستي ان لم نكن مستعدين لان نشارك ايضا في الخبز اليومي، ونلتزم للعمل من اجل اقامة نظام عادل وأخوي في العالم. بهذا كانت الافخارستيا منبع الخدمة المسيحية في العالم.
3-5- بنية الاحتفال الافخارستي وعناصره وأجزاؤه
ينقسم الاحتفال بالافخارستيا على نحو ما الى قسمين: قسم خدمة الكلمة وقسم الاحتفال الافخارستي بالمعنى الحصري. والقسمان متحدان الواحد منهما بالآخر اتحادا هكذا وثيقا الى حد انهما يؤلفان عمل عبادةٍ واحداً (را: ل56). فالمائدة التي توضع في الافخارستيا هي في أن واحد مائدة كلمة الله ومائدة جسد الرب (را: ول21). والى ذلك يضاف الافتتاح الليتورجي والخاتمة الليتورجية للاحتفال الافخارستي. وعليه تنتج البنية الآتية:
أ- الافتتاح: الدخول، التحية ،الاقرار العام بالذنب، كيريه (يارب ارحم)، المجد لله في العلى، وصلاة اليوم. هذا القسم هو قسم المدخل والاعداد للاحتفال كله.
ب- خدمة الكلمة: تقوم خدمة الكلمة في قراءات من الكتاب المقدس والمزمور الذي يتوسطها. يلي ذلك العظة، وقانون الايمان، والطلبات التي تتوسع في هذا القسم وتختمه.
في القراءات التي تتبعها العظة لتفسيرها، يكلم الله شعبه ويغذي حياته بروحه القدوس. ويسوع المسيح حاضر هو نفسه في وسط المؤمنين. المزمور يمثل جواب الجماعة، الايات التي تتلى على ترنيم " هليلويا " تتضمن تحية الاكرام للرب الحاضر في بشارة الانجيل. قانون الايمان يعبر عن موافقة الجماعة لكلمة الله التي سمعها في القراءات والعظة. واخيرا في الطلبات تمارس الجماعة خدمتها الكهنوتية من خلال صلاتها لاجل جميع الناس ولاسيما المحتاجين منهم.
ج- الاحتفال الافخارستي بالمعنى الحصري: يتضمن ايضا ثلاثة اقسام:
اعداد القرابين، الصلاة الافخارستية، والمناولة.
في اعدادالقرابين، يؤتى بالخبز والخمر والماء الى المذبح مع الترنيم والصلاة.
في الصلاة الافخارستية، صلاة الشكر والتقديس، يبلغ الاحتفال قلبه وذروته.
واهم عناصره: الشكر من اجل عمل الخلاص بأكمله. وهو يجد أقوى طابع له
في المقدمة. في الهتاف الثلاثي " قدوس "، توافق الجماعة كلها وتتحد مع
القوات السماوية في نشيد تسبيحها. في استدعاء الروح القدس، تصلي الكنيسة
الى الآب ليرسل روحه القدوس على القرابين المقدمة، لتصير به جسد يسوع
المسيح ودمه. في رواية التأسيس (كلام التقديس) يصير، من خلال كلام يسوع
وعمله، جسد المسيح ودمه حاضرين في شكلي الخبز والخمر، وتصير حاضرة
بوجه اسراري الذبيحة التي قرّبها مرة وعلى نحو نهائي على الصليب في
الذكر الذي يلي، تذكر الكنيسة الآم يسوع المسيح وقيامته وصعوده الى السماء،
في صلاة التقدمة، تقدم بيسوع المسيح في الروح القدس القرابين لله الآب، في
التذكارات وصلاة الاستشفاع، تعبر الكنيسة عن اقامتها الافخارستيا في الشركة
مع الكنيسة بأجمعها ومع كل جماعة القديسين. والاعلان الاخير الختامي يعرب
ثانية وبايجاز عن تمجيد الله وتسبيحه، ويثبته هتاف الجماعة ويختمه.
قسم المناولة يُستهل بالصلاة الربية. التحية السلامية وكسر الخبز يبينان اننا
نشترك في الخبز الواحد، وننضم بالتالي الى جسد المسيح الواحد. ولذلك تنتهي
صلاة " ياحمل الله " المرافقة لها بالطلبة الآتية:" امنحنا سلامك ". وتختم المناولة
نفسها بصلاة الختام، التي يطلب فيها ان يكون التناول مثمرا.
د – الختام: يُختم الاحتفال الافخارستي بتحية الكاهن وبركته وبدعوة المشتركين الى
الانطلاق، للعودة بالشكر الى الحياة المسيحية اليومية.