البابا يوحنا بولس الثاني: اقتحم الدنيا اقتحام القديسين
لم يذهلني احد بتواضعه كما أذهلني يوحنا بولس الثاني. لقائي الأول له كانت السلاسة فيه تأتي من البابا. جعل نفسه تلميذاً في مجمع الفاتيكاني الثاني فأظهرت تحفظي عن بعض ما جاء في المجمع متعلقاً بفهم الكثلكة والأرثوذكسية للكنيسة. كانت تهمه التطلعات والتجاوز إلى ما سيقوله الروح للكنائس.
في السينودس لأجل لبنان وقفت خطيباً وأنا على بعد عشرين سنتيمتراً منه على المنصة وتحدثت عما يفصلنا عن الكنيسة الرومانية. بقي حانياً عنقه ويستمع بهدوء. ثم جمعتنا في شقته على الغداء مائدة لبنانية. وكان على بساطة مغرية واظهر لي مودة جعلتني اقرأ أن بساطة الحياة فيه كانت أقوى من الدور.
حزنت عند آخر استقبال له في خريف السنة 2003 غبطة البطريرك أغناطيوس الرابع حيث رغب قداسته أن يتحدث إلى بطريركنا مرتين خلال يومين أقامهما السيد أغناطيوس في رومية مع صحبه إذ كان البابا يقول جملاً قليلة. بعد العشاء قادنا يوحنا بولس الثاني لنصلي أمام أيقونة سيدة قازان، تلك التي أعادها إلى الكنيسة الروسية أخيراً.
أظن أن أهم ما يلفت في هذا الحبر الكبير انه بقي إنساناً وبقي كاهناً ومواجهاً الدنيا مما تأمله فيها ومما أحس به في مطلع شبابه في بلده. لم يطلق ظلم القهر الذي نتجت منه المعتقلات كما لم يتحمل ظلم الرأسمالية المتوحشة. ما عنى لي بالدرجة الأولى انه في الموقفين كان يأتي من إيمانه. التحليل البسيط لخصامه الرأسمالية والماركسية معاً هو أننا أمام رجل حر.
قلت كان إنساناً وهذا لا يكونه أحد بتصنع. أحب فتاة وهو في الثامنة عشرة وكتب شعراً قرأته في ترجمة فرنسية وكان من عيون الشعر ومارس المسرح قليلاً. غير أنه بعد اقتباله الكهنوت وفي جديته الرومانية رفض زخرف الكلام ليبقى في حق الإنجيل. بشريته في عفويتها جعلته محباً للأطفال. رأيته يلاطفهم بصدق وحنان ولا يرفض أن تقبله افريقية ببساطتها.
غير انه لم يصل إلى الإنسان إلا بعد أن يكون الله قد خطفه في القداس والفروض الأخرى كل صباح. لهذا قلت انه بقي كاهناً وان رعيته هي العالم. هذا من صميم روح الخدمة عند كل رسول. غير أن هذا مرتبط أيضاً بدور الأسقف المسكوني ومدلولها انه راعي العالم.
الشأن البابوي دقيق جداً. يعجبك أو لا يعجبك ولكنه هام. العمل في الفاتيكان جماعي مهما كانت شخصية البابا قوية. ذلك انه يحترم العلم والمواهب. واللافت أن السلطة الأكثر مركزية في العالم هي اقرب السلطات إلى الشورى ولو كان للبابا أن يهمل أي نص تقدمه له. وبات من الواضح في السنتين الأخيرتين أو الثلاث من حبريته كان اتكال يوحنا بولس على أعوانه كبيراً. لكن التشاور عنده ما كان يزحزح الثوابت الأخلاقية الموروثة من أسلافه: مكافحة الإجهاض، رفض الجنسية المثلية، التركيز على العائلة وقدسيتها وديمومتها... ما علاقة كل هذا بتبجيله العظيم لشخصية مريم أم المخلص؟ كان يبدو لي أحياناً مغالياً في تعابيره المريمية. هل في هذا بعض من خشيته لاهوتيين في كنيسته يؤثرون تعابير "بروتستانتية"؟.
ولكن على رغم إيغاله في الهاجس الكنسي البحت كانت تهمه أوروبا في ما احتسبه لا يزال مسيحياً فيها. وإذا صح لي اقتباس تعبير من تراث آخر لقلت انه كان ذا حنين إلى جعل أوروبا صورة عن بولونيا. اعني هذا وجود حضور للمسيحية في بنية الدول الغربية بما ينافي العلمانية أو التفسير الفرنسي لها. ربما في قلب هذا المنحى الأوروبي تمنى أن تخرج بلاده من الفلك السوفياتي وكان له هذا بدعمه الكبير لمجموعة النقابات التي اتخذت اسم "سوليدارنوسك" (التضامن).
يقتحم الناس في عقر دارهم. يصافح فيديل كاسترو ويتكلم ضد الماركسية في كوبا. رجل أصابته رصاصتان ماذا يخشى؟ ما كان يهمه، حقيقة، كان اقتحام الشعوب المسيحية بالإنجيل بعدما باتت مسيحيتها باهتة. أما مع الآخرين فحوار. الفكرة ليست منه. ولدت في مجمع الفاتيكان الثاني الذي تتلمذ عليه كما قال لي. ما من شك أن المسيحية الغربية بما فيها الشق الكاثوليكي خصصت لحوار اليهود حصة الأسد. وفي علم تفسير الكتاب وغير التفسير أقوال كثيرة حولت الغرب عن التراث المسيحي القديم الذي كان يندد باليهودية. تهلل الغرب لما دخل البابا منذ بضع سنوات كنيساً يهودياً في روما. نحن المحافظين على المسيحية القديمة انزعجنا من هذا انزعاجا بالغاً.
بقي الحوار مع المسلمين -ما عدا أوساطاً أكاديمية في الغرب- لقاء مع شعوب إسلامية وقادتها على المستوى العملي أي على مستوى السلام. على هذا الصعيد لم يكن عند الرجل مشكلة في مخاطبة الجماهير الإسلامية في المغرب ونيجيريا وفي دعوتهم إلى جانب ممثلين لكل ديانات الأرض إلى اسيزي للصلاة. كان يوحنا بولس الثاني مؤمناً بالصلاة من فم أي مؤمن خرجت. أظن أني لست ظالمه لو قلت انه كان يحمل في آن التصلب الكاثوليكي النظري وانفتاح القلب على القلب. الكثلكة منذ بيوس الثاني عشر كانت قد دخلت في مفهوم أن الكنيسة تقوم أيضاً خارج كنيسة رومية بما في ذلك الأديان الأخرى.
صلابة كاثوليكية ساطعة في انه ما سمى مرة البروتستانتيين كنيسة مع انه اقام حوارات مع كل "مجموعة بروتستانتية" كما كان يقول، حوارات مؤسساتية نتج منها وثائق كثيرة ومتقدمة ولاسيما مع اللوثيريين.
تقدم كثيراً حواره مع الذين نسميهم اليوم الأرثوذكسيين الشرقيين ولاسيما منهم الأقباط والسريان كما توبع الحوار مع كنيسة المشرق (الأشورية). مع هؤلاء جميعاً أكدت الكثلكة وحدة الإيمان. طبعاً إذا أردت الدخول في التفاصيل يدهشك هذا. لكن الواقع أن رومية وضعت نصوصاً تؤكد فيها هذه الوحدة. غير أن هذه التأكيدات لم تصل إلى نهايتها اعني الوحدة العملية.
مع الأرثوذكس تابع البابا الراحل الحوار الذي شرع فيه أسلافه منذ بولس السادس وكانت ذروته في وثيقة البلمند الشهيرة في السنة الـ1993 حيث قيل أن الكثلكة الشرقيةl`uniatisme كانت خطأ تاريخياً وما كانت نموذجاً للوحدة. غير أن كارثة حلت في آخر اجتماع للجنة المشتركة في بالتيمور (الولايات المتحدة) حيث انقطع الحوار ولم يستطع يوحنا بولس الثاني أن يحقق أمله في زيارة روسيا. فقد أحست كنيسة موسكو أن الكثلكة تبغي الانتشار على الأرض الروسية بعد تأسيس الفاتيكان أربع أبرشيات على التراب الروسي والكاثوليك العائشون في روسيا وجلهم من أصل غريب قليلو العدد جداً.
هناك مظاهر عديدة في أوكرانيا ورومانيا بدت للأرثوذكسيين أن ما يسمى حواراً يصطدم بوقائع على الأرض اعتبرها أرثوذكسيو تلك البقاع محاولات اقتناص. لكن هذا التوتر لم يمنع كنائس أرثوذكسية مختلفة من أن تستقبل البابا وان تقيم علاقات ثنائية معه. ولعل أهم تلاق ثنائي فيه الكثير من الود ذاك الذي قام بين يوحنا بولس الثاني مع الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية وذروته الخطاب اللاهوتي العميق الذي استقبل به البطريرك أغناطيوس الرابع يوحنا بولس في الكاتدرائية المريمية في دمشق.
ذهب البابا في تطلعاته العظيمة وقلبه الكبير إلى الرحمة. قد لا تجيء كل محاسنه مع خليفته ولكنه يبقى وجهاً كثير البهاء بما فيه من رهبانية حق وألم خلاصي وفصحية نيرة. هو لا يزال من بعد احتجابه يدعو ويلح. لقد شد الكاثوليك إلى فوق وأراد المصالحة بين المسيحية والحضارة. نشأ الرجل محافظاً ومات محافظاً ولكنه اقتحم الدنيا اقتحام القديسين لها ولم ينم لحظة. لقد ذهب إلى الرحمة حاملاً سجلاً حافلاً بالمآثر. رجاؤنا أن ترث كنيسته الغنى الذي كان فيه فيزداد جمالها حتى نطرب له