"سرّ التوبة"
مقدّمة أولى :
"المسيح قام حقاً قام!" ؛ إنه لقاؤنا الأول من بعد عيش مغامرة القيامة، واننا ع النسوة الثلاث أمام الحجر الذي دُحرجَ عند الفجر، فجر اليوم الأول من الأسبوع بعد مضي يوم السبت، وكانت قد اشرقت الشمس، كما يذكر إنجيل لوقا، نجد أننا نبدأ مغامرة جديدة، أي مسيرة حيّة ملؤها النعم والبركات، بمعنى آخر لم يعد شيء كما كان، "كل شيء صار جديداً" كما يقول بولس. نعم لقد "أشرقت شمس الأحد وتغيّر كل الموضوع"، القبر فارغ، الحجر دُحرج، النسوة كنَّ في حزن وصرن في فرح، الميت هوَ حيّ. نرجو أن تُشرق علينا شمس ذلكَ اليوم، اليوم الأول منَ الأسبوع حتى يتغيّر كل الموضوع ويصير كل شيء جديداً.
مقدّمة : بعد عرض معاني سرَّي المعموديّة والتثبيت، جاء موضوع الزواج كطرح استثنائي لظروف زمنيةّ ومستجدّات غير مقصودة. نعود اليوم إلى الطرح التسلسلي لمواضيعنا، تاركين متابعة معاني سرّ الزواج والمعطيات المتعلّقة به إلى ما بعد. لو أردنا اتباع المنطق القائل باسرار "التنشئة المسيحيّة"، لكان علينا اليوم طرح موضوع سرّ الإفخارستيا الذي يكمّل ترابط التنشئة المسيحيّة من معموديّة وتثبيت إلى شركة في الجذور وبالتالي الاتحاد بالجسد السرّي بطريقة فعليّة. لكننا نتبع منطقاً آخر ألا وهوَ ترابط سرّ التوبة أو الاعتراف بالمعموديّة، اذ كان يعتبره الأولون العماد الثاني؛ فكما أن المعموديّة تغسل من الخطايا هكذا هيَ "التـوبـة".
إن موضوع التوبة وسرّها طويلان، كثيرا المعطيات وغنيان بعناصرهما، لذا سنتوقف عنده خلال لقائين، وذلك لدرس النقاط التالية: (انطلاقاً من دراسات وابحاث متعددة استندنا عليها).
1- مفهوم الخطيئة.
2- معنى التوبة وتسمياتها.
3- تاريخ سرّ الاعتراف.
4- مانح سرّ التوبة.
5- عناصر سرّ التوبة.
6- مفاعيل سرّ التوبة.
1- مفهوم الخطيئة
الخطيئة هي رفض الإنسان لمحبة الله، إذ يسعى إلى تحقيق ذاته دون الله، كما ويسعى إلى تحقيق ذاته دو أي إنسان آخر، ودون أي قيم أو أخلاق أو إيمان. فالخطيئة إذا هيَ أن يرفض الإنسان الله والقيم والخلاص والإنسان قريبه.
إذا رجعنا إلى سفر التكوين في فصوله الأولى نكتشف معنى الخطيئة. عندما خلق الله الإنسان، أمره بعمل الخير. لكن الحيّة أغوت الإنسان؛ فبعد انجرافه بهذا الاغواء، سأل الله آدم: "أين انت؟".
اين انتَ؟ اختباً آدم، خاف، ابتعد عن الله. هذه كانت الخطيئة ببُعدها الأول: الإنسان الذي يبعد عن الله.
إذا تابعنا في سفر التكوين نصل إلى قايين وهابيل. قتل قايين اخاه، وسمع صوت الله يناديه: اين أخوك؟ قايين كان وقحاً: لعلي حارس لأخي؟ هذا البُعد الثاني من الخطيئة: عندما يتجاهل الإنسان أخاه الإنسان: كل مرة نتجاهل الإنسان الآخر تظهر فينا الخطيئة. هي رفض المحبة، تَنَكّر لمحبّة الله الذي يأخذ دائماً مبادرة تجاهنا؛ رفض لأن ندخل في علاقة محبّة مع الله، ورفض للمحبّة التي يجب ان نعيشها مع الإنسان الآخر. الله يبني بينه وبيننا حوار محبة كما بيننا وبين الآخرين. كلما انقطع هذا الحوار تبرز الخطيئة.
لكننا اليوم، نجد الكثيرين يرفضون الخطيئة، أو بمعنى أوضح، يرفضون الشعور بالخطيئة، يفقدون هذا الحس؛ يعود فقدان الشعور بالخطيئة إلى الأسباب التالية:
- تأثر بالإلحاد: الوجودية الملحدة تعتبر ان الإنسان يكوّن ذاته بذاته.
- تأثر بالبوذية: يعتبرون أن الخطيئة هي نقص موجود في الخليقة ويصحح بالذكاء والإجتهاد. هي مجرد نوع من الضعف وبجبلة الإنسان يصلّح.
- تأثر بكون الإنسان هو القيمة المطلقة. والخطئية ليست إلاّ إساءة إلى إنسان.
- تأثر بالكثير من علماء النفس الذين يعتبرون الخطيئة هي مجرد ضغوط موجودة من طفولتنا واليوم نحن كبرنا علينا ان نتحرر من طفولتنا، علينا الا نعيش في هذا النوع من التربية التي تفكك القيود وتطلق إلى الحريّة المطلقة.
- هناك مَن فقدوا شعورهم بالخطيئة لأن الكنيسة فقدت قيمتها عندهم، فهم يطيعون فقط العالم وحالته، فالخطيئة من اختراع الكنيسة.
كلّها امور جعلت الإنسان يفقد معنى الخطيئة. علينا أن نعي أن الخطيئة هي رفض لحبّ الله، هي أن ننصب ذاتنا مكان الله لذا نفقد شعورنا بالخطيئة.
أ) العهد القديم والخطيئة:
العبارات التي يستعملها العهد القديم عندما يحكي عن البشرية مستقاة من العلاقة البشرية: تقصير، تمرد، ظلم، إهانة... يعرف الخاطئ إنه فعل الشرّ في عيني الرب. يحكينا عن الخطيئة الأصليّة خطيئة الإنسان الأول وهي تمرد على حكم الله. ليس فقط التمرّد خارجياً، إنما ينبع من موقف داخلي في الإنسان الذي يدّعي انّه يحل محل الله. يرفض كل تبعيّة لله. الإنسان لا يريد صورة الله. الصداقة التي اراد الله أن يجعلها بينه وبين الإنسان رفضها الإنسان. هذه هي الخطيئة الأصلية. أفسدت علاقة الإنسان مع ذاته، والطبيعة، واغلقت الباب بين السماء والأرض، بين ذات الإنسان والله. والمبادرة من الله كانت لأعادة فتح الباب.
وفي العهد القديم يحكى عن خطيئة الشعب رغم ان الله غمر الاسرائليين بانعامه واعتق الشعب من عبوديّة مصر وكان دائماً إلى جانب الشعب وأراد أن يكون إلههم وهم أبناءه. أراد أن يسير معهم وكانت خطيئة الشعب رفض الاستسلام في يدي الله. كل الأنبياء كانوا ينادون بالتوبة وبالبعد عن الأمور التي تفصل عن الله، الأمور التي هي احتقار لمشيئة الرب. يتضح لنا من العهد القديم ان الخطيئة كانت تطال الله في قلبه، هي الإهانة الكبرى. لذا ان ربنا ليس إله فلاسفة إلهاً لا مبالياً وبعيداً؛ انّه إله محبّة، شعر بخطيئة الإنسان التي افسدت مشروع الخلق. أراد أن يُعيد المحبّة وكان الدواء ان أرسل انبياءه وابنه. التوبة واعمال الرحمة تشكّل كلّها الطريق إلى الله.
ب) العهد الجديد والخطئية:
(متى 1/ 21): أتى ليخلص شعبه من خطاياهم. (مرقس 10): فيبذل نفسه فداء عن كثيرين... .
في مثل السامري الصالح (لوقا 10) المسيح يعلّمنا انّ الخطيئة هي رفض المحبّة. يعلّمنا في مثل الأبن الشاطر أنّ الخطيئة هي انشطار عن الله. انتصر المسيح على الخطيئة، وانتصر اثناء التجربة على الشيطان. قبل أن ينتصر عليه طرده من الذين كان يسكن فيهم، قال لنا انّ الشيطان هو كذاب. وأيضاً يقول لنا مَن يفعل الشرّ يبغض النور. وهكذا اليهود ابغضوا المسيح واباه وقتلوه. هذه هي الخطيئة التي انتصر عليها المسيح لما تجسد وقبل الموت على الصليب ليمحو خطايانا.
وعند يسوع مواقف مهمة في العهد الجديد مع الخطأة: (مرقس 2): كان يجالسهم ويأكل معهم مما أثار غضب الكتبة (ليس الأصحاء بحاجة إلى طبيب بل المرضى)، علّمنا يسوع في مثل الإبن الشاطر رحمة الآب. كان مع الخطأة: مريم المجدلية، السامرية، زكا، بطرس، لص اليمين، مع صالبيه.
هو الراعي الصالح الذي يفتش عن الخروف الضال. يسوع تعامل مع الخطأة وأعطانا دواء هو الغفران ورحمة الله. علينا أن نطلب الغفران فيعطينا الله اياه بدون شرط. اذهب ولا تعود إلى الخطيئة من بعد. كرر يسوع هذا الكلام. توبوا، هذه دعوة يسوع الدائمة. عودوا إلى الآب السماوي، لننبذ الخطيئة ولنعد الى الطفولة ولنرتم بثقة بين يدي الله ولنلبس الإنسان الجديد ولنولد الى النور.
أسس يسوع سرّ التوبة: قال لبطرس على هذا الصخرة ابني كنيستي واعطاه مفاتيح ملكوت السماء، كل ما تحلّه يكون محلولاً في السموات. عند المسيح السلطان ليغفر الخطايا وقد سلمه إلى مار بطرس والرسل، هذا هو تعامل المسيح الذي افتدى العالم.
الخطيئة هي تعطيل حوار المحبة ان كان مع الله أو مع الإنسان.
* هناك خطايا نشعر اننا بها قد جرحنا الله والآخر، ولكن هذه الإهانة عرضيّة بسيطة. امّا الخطيئة المميتة فهي شرّ كبير وخطر كبير، نوعا ما موت، لذا هي خطايا مميتة. وفي الكتاب المقدّس تلميح حول كون الإنسان يقدر بخطيئته ان يُميت الله وأخاه الإنسان هذا ما نسمّيه خطيئة مميتة اي قلب الإنسان الذي خلا من محبّة الله، أصبح جاحداً وقد أهان القريب في الصميم.
* يوجد وجهان للخطيئة، ليست الخطيئة ان اتحاشى الشرّ فقط. هذا امر ناقص. الخطيئة هي نقص ايضاً في عمل الخير. الحياة المسيحية ليست جامدة او عدم أذى. إن الله يدعونا لأخذ المبادرة لعمل الخير. الخطيئة موجودة حين لا آخذ مبادرة للخير. نحدد خطايانا انطلاقاً من الوصايا التي قدمها لنا الربّ، الوصايا العشر أو الوصيّة العظمى التي أعطانا اياها يسوع المسيح: احبب الربّ إلهك وقريبك كنفسك. مخالفة هذه الوصايا هي الخطيئة. الوصايا العشر توسيع لوصية يسوع. الوصايا العشر وصايا نفي، (لا لا لا) المسيح اختصرها، لا تتحاشوا فقط بل احببوا بصيغة الإيجاب. يجب الا تبقى الخطيئة فقط عندنا مخالفة الشرائع، هي رفض الإنسان لله ولأخيه الإنسان وما ينقص الإنسان من مبادراته لعمل الخير.
2- معنى التوبة وتسمياتها
لقد أطلِقَ على سرّ التوبة عدّة تسميات انطلاقاً منَ المفاهيم التي يحمل.
نورد أهمّ هذه التسميات مع ايضاحاتها:
- سرّ الهداية او الارتداد: في التوبة يوجد إنسان مرتدّ إلى الآب.
- سرَ التوبة: من جوهر هذا السرّ هو عيش داخل الإنسان الذي رجع إلى ذاته
- سرّ الإعتراف: من جوهر هذا السرّ هو الإعتراف أمام الله والكاهن.
- سرّ الغفران: علاقة الربّ معنا.
- سرّ المصالحة: الإنسان صالَحَ ذاته معَ الله وأخيه الإنسان.
أ- أمّا في ما يخص معنى التوبة أو مفهومها، فبالعودة إلى الكلمة الموحاة نجد أنّه في إنجيل متى، كما في إنجيل مرقس، يبدأ يسوع تبشيره بالدعوة إلى التوبة.
في متى، ترتبط هذا الدعوة باقتراب ملكوت السماوات "...تـوبـوا قد اقترب ملكـوت السماوات". اما في مرقس فترتبط بالإيمـان "...توبـوا وآمنـوا بالإنجيـل" (متى 4/ 17 مرقس 1/ 15).
بهذا يتميّز يسوع عمن سبقه من انبياء، بما فيهم المعمدان، رغم التشابه الكلامي. فالتوبة التي إليها يدعو، ليست فقط عملاً بشرياً وجهداً إنسانياً. إنّها نعمة، هبة إلهيّة، هبة الخلاص، لأن الله وحده بوسعه أن يدعو اليها ويمنحها. لذلك تفترض الإيمان، والقبول المجاني بتواضع: "ان لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال لا تدخلوا ملكوت السماوات" (متى 18/ 7).
وعليه لا دخول إلى الملكوت، دون توبة، وبالتالي لا حياة إنجيلية، ولا حياة روحية. فالتوبة قيمة إنجيلية أساسية ومختصر الحياة المسيحية وليس فقط فضيلة من عداد الفضائل (راجع البابا بولس السادس، دستور رسولي في التوبة 1966، عدد 11، 12، 17) انها ولادة جديدة لحياة جديدة. "تبديل جذري" كامل، في عمق اعماق قلب الإنسان وكيانه – افكار، نوايا، عواطف، أحكام ومسلك – بها يهتدي الإنسان إلى معرفة الحق فيخلص ( 1 طيم 2/ 4). التوبة وصيّة إلهية ضرورية ضرورة الواسطة للخلاص : "إن لم تتوبوا، تهلكوا بأجمعكم" (لوقا 13/ 3-5)، وبالتالي فأننا نفهم التوبة :
ب - أنها ارتداد وندامة:
يولد الإنسان في غربة عن نفسه وعن الله. وتتعمق هذه الغربة بفعل ما يرتكبة في حياته من خطايا. فالخطيئة هي واقع إنساني مرير: "جميعهم قد خطئوا فحرموا مجد الله" (روما 3/ 23). هي ابتعاد عن الله، نسيانه والتمرد عليه، عدم الإصغاء لكلمته وبالنتيجة تركه والتنكّر له والتخلّي عنه وحتى إنكار وجوده: "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مزمور 13/ 1).
اما التوبة فهي بالتمام عكس ذلك: ابتعاد عن الخطيئة، وتخلٍّ عنها وتحرر من عبوديتها، نبذها واقتلاعها من حياتنا؛ وبالنتيجة ارتداد إلى الله وعودة إليه ومن ثمّ عودة إلى الذات فانسحاق للقلب:
· عودة إلى الله:
نقطة الانطلاق في التوبة هي هذه: اكتشاف الله في حياتنا، وعي إيماني على حضوره ودوره، على محبته ورحمته. الإبن الضال تاب وعاش لأنه عاد إلى أبيه (لوقا 15/ 17-20). والمرأة الخاطئة بكت وبللت قدمي يسوع بدموعها ومسحتهما بشعرها وقبّلتهما ودهنتهما بالطيب فنالت الغفران لأنها تلّمست في وجه يسوع رحمة الله. إيمانها خلّصها (لوقا 7/ 38-50). المبادرة هي من الله، هو يدعو إلى التوبة، "ما من أحد يستطيع أن يأتي اليّ إلاّ اذا اجتذبه الآب الذي ارسلني" (يوحنا 6/ 44).
العودة إلى الله هي فعل إيمان بمحبته، ورحمته، واستعداده الدائم ليغفر ويسامح. وحده يتوب، الإنسان الذي اكتشف الله الذي يعفو عن الذنب. "حقيقة خطيئتي لا تنكشف امام ضميري إلاّ بمقدار وعيي الإيماني أنني موضوع محبّة من الله. والعكس بالعكس إن لم اعترف بمحبة الله لن استطيع معرفة ذاتي خاطئاً." (غبريال مارسل)
والعودة إلى الله هي مسيرة شاقة في الدرب الصاعدة نحو الاقتداء بالآب كالأبناء الأحباء، والسير في المحبّة سيرة المسيح الذي أحبّنا وبذل نفسه لأجلنا (أفسس 5/ 1-2) "أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له: "يا أبت انّي خطئت إلى السماء وإليك". (لوقا 15/ 18)
· عودة إلى الذات:
العودة إلى الله تعيدنا إلى ذاتنا. الإبن الضال لم "يرجع إلى نفسه" (لوقا 15/ 17) الا لأنه تذكر أباه والأجراء عند أبيه الذين يفضل عنهم الخبز، بينما هو في شقاء يهلك جوعاً.
هذه العودة إلى الذات هي يقظة على ضعفنا، وبؤسنا ودعوتنا. في ضوء وجه الآب، نرى نفسنا على عريها، ونفهم خطأنا وخطيئتنا. نذكر من اين سقطنا وكيف تركنا حبّنا الأول، وكيف قبلنا الكلام ولم نحفظه. (رؤيا 2/ 4-5، 3/3).
كلمة الله تنير ظلماتنا وتوقظ ضميرنا، وتديننا (يو 12/ 48) تجعلنا نلمس لمس اليد "مرض قلبنا الشرير"، فلا نعود نحاول تبرئة ذاتنا ولا تقديم الأعذار التخفيفية. بل نرتمي على اقدام الصليب صارخين مع العشار: "اللهم ارحمني انا الخاطئ" (لوقا 18/ 14). وفي وجه إلهنا المصلوب، نكتشف في آن واحد رحمة الله اللامتناهية وفظاعة خطيئتنا اللامحدودة. ندرك ان الخطيئة هي شر أصابنا نحن والقريب، بل أصاب الله بالذات. فلا مجال بعد للأدعاء الخادع انّي حرّ بنفسي وانّي حين ارتكب الشر لا أُلحق الضرر الاّ بنفسي فقط.
ان الله يصاب في كل إنسان مضروب بالخطيئة. وحين أجرح ذاتي انا الذي ارتضي الله واحبّه، أجرح الله وأجرح الآخرين.
· القلب المنسحق:
القلب المنسحق هو قلب المؤمن الذي يعترف انه لن يكون ابداً "باراً" وان ليس له مستقبل سوى ان يكون خاطئاً – نال الغفران". يعترف ان خطيئته اكبر من ان تغتفر ولكن يؤمن ان الله بمحبته قد غفر له، فبدّل "اصل المرارة" (عبرانيين 12/ 15) والشعور بالذنب الى "عذوبة المعانقة الأبوية" وبالتالي إلى "دموع فرحة العيد". وهذا هو الفرق بين يوضاص وبطرس. بطرس عرف ذنبه فبكى بكاءً مرّاً (متى 26/ 75) وتذكر كلمة يسوع وآمن بمحبته. اما يوضاص، فعرف ذنبه واعترف انه اسلم دماً بريئاً (متى 27/ 4) ولكنه لم يعد إلى الله وبالتالي لم يندم ولم يتب. بقي على مستوى حكمه الذاتي على نفسه، فوقع في اليأس وشنق نفسه.
القلب المنسحق، خطيئته امامه في كل حين (مزمور 50 او 51)، ولا يسعى ان ينساها لأنها اصبحت له "عربون محبة الله له وموضع لقائه بالله". وهذا ما يجعله يبكي دائماً دموع التوبة، وهو يتأمل دون انقطاع الرفض الإنساني للحب المصلوب. بهذا المعنى كتب يوحنا السلمي في كتابة "سلم الفردوس" (7/ 37) "لن يعاتبنا الله يوم الدينونة ولن يلومنا على اننا لم نصنع المعجزات... بل سنعطي جواباً على اننا لم نبكِ دائماً خطايانا."
دموع انسحاق القلب، لا تتنافى مع دموع الفرح، وتكمّل مفعول مياه المعمودية.
"ندامة كهذه هي عودة من المنفى الى الله" (يوحنا الدمشقي).
"أسلم نفسك إلى انسحاق القلب، تجد التقوى" (الإقتداء بالمسيح 1/ 21).
ج - إنّها غفران ومصالحة:
"ان الخطيئة لا تدرك بذاتها ولا لأجل ذاتها بل بنور محبة الله الغافرة".
(Sagne, Tes péchés ont été pardonnés, chalet 1977 p. 26)
نحن لا نؤمن بالخطيئة، بل بغفران الخطايا. وبمقدار ما ينفتح الإنسان على هذا الغفران، بمقدار ذلك يستطيع ان يعترف بخطاياه. الخطيئة إذاً هي "ثمرة وحي": وحي غفران الآب: "إذا اعترفنا بخطايانا فإنّه أمين عادل يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كلّ أثم..." (ا يو 1/ 9).
وحياة التوبة تبدأ بقبول الغفران في ضوء هذا الوحي. نسأل إذاً عن غفران الله، وغضب الله، والمصالحة التي نعيش معه.
· ما هو غفران الله:
لا يغفر الله كما يغفر الناس. الإنسان يغفر عن أنانية خفية، او حسابات سياسية، او تطلعات مثالية، عن رفعة او احتقار وازدراء. يطيب له ان يرى نفسه اعلى من خصم يلتمس منه المعذرة. ويغفر الإنسان عن ضعف كالأب السموح الذي يتظاهر انه لم يلحظ خطأ ابنه. او كالمربّي المتواطئ الذي يغض النظر عن سوء تصرف تلميذه. او كالصديق المتورط الذي يعذر صديقه ويجد له الأسباب التخفيفية ان لم يتملقه ويجعل نقائصه حسنات محببة.
أمام خطيئة الإنسان، الله لا يقطع الأمل بالإصلاح ولا ينزع ثقته ومحبته، ولا يعتبر خيانة اليوم مانعاً يتنافى مع أمانة الغد. غفران الله فعل حرية من محبته الخلاقة والفادية. به يحفظ الله محبته للإنسان الخاطئ لا بل يجددها. ومجانية الحب تصبح هنا رحمة لا حدود لها ولا عائق... موقف الإنسان من خطيئة قريبه موقف المقتصّ او موقف المتغاضي. اما الله فبوسعه ان يدلّ بالإصبع إلى إثمنا، ويضع يده على الجرح، ويقول الكلمة الشافية التي لا تشكو الا لتعتُق وتحرر. تقول لنا، كما لداود، "انتَ هوَ الرجل" وبذات الوقت تعزّي وتُضمّد وتشفي بقولها: "قد نقلت خطيئتك عنك فلا تموت". ( 3 صموئيل 12/ 7 و 13)
· ما معنى غفران الله وغضبه:
مراراً ذكر الكتاب غضب الله. لننتبه الا نأخذ هذا العبارة بالمفهوم البشري. عدم ثقة، احتقار، رغبة انتقام، عنف وعداوة وبغض.
غضب الله وجه من وجوه محبته، المتألمة، التواقة الى تحقيق ما تصبو اليه، فتقف بوجهها حرية الإنسان وتقيد قدرة الله اللامتناهية. في هوشع 11/ 7-9 ، يشكو الربّ من اسرائيل الذي تشبث بالارتداد عنه ولم يتجاوب مع دعوة العلي، فيقول: "كيف اعاملك يا اسرائيل وأصنع بك يا افرائيم... قد انقلب فيّ فؤادي واضطرمت مراحمي. لا أنفذ وغر غضبي ولا اهتمّ بعد بتدمير افرائيم لأنّي انا الله لا إنسان."
وبدوره الرسول بولس يؤكد لنا: "ان الله لم يجعلنا لغضبه بل لنيل الخلاص بربنا يسوع المسيح الذي مات من اجلنا لنحيا معه جميعاً" (1 تسالونيكي 5/ 9-10) فالله هو إله الرحمة، يحتمل بصبر عظيم "أنية الغضب" داعياً اياها إلى التوبة، لتصبح "أنية الرحمة" وتتحول من "غير محبوبة إلى محبوبة" والذين ليسوا بشعبه يصبحون "أبناء الله الحيّ المعدّين للمجد". (روما 9/ 22-26).
ومَن ينجّينا منَ الغضب الآتي؟ ليست الشريعة بل المسيح الذي بدمه ننال البرّ وبه ننجو من الغضب (روما 5/ 10، 2/5 و 1 تسالونيكي 1/ 10). فهو حمل الله الحامل خطايا العالم (يو 1/ 29) الذي أسلمه الآب لأجل جميعنا (روما 8/ 32) فجعله لعنةً لأجلنا لكي نحصل به على البركة (غلاطية 3/ 13-14).
من هذا التدبير نفهم كم ان الخطيئة ليست هي "شر للإنسان" فقط، بل "شر لله" ايضاً. انما ليس بمعنى انها تطاله في كمالاته وتنقص من مجده، بل بمعنى انه يتألم ألم المحبّ الذي لم يجد تجاوباً عند الحبيب، ويزداد ألمه الماً للخراب الذي جلبه الحبيب على نفسه بعدم تجاوبه. ولا نعجب من هذا اذ ان "الدخول في الحب هو تسليم الذات، دون حماية، وإلى اقصى أنواع العذاب، عذاب الرفض والترك من قبل من نحب".
(Olivier Clement; Questions sur l`homme, stock 1972, p. 46)
من جهته Varillon في كتابه، "La souffrance de Dieu, Centurion 1975 p. 53, " كتب قائلاً: "أن القول ان الله يتألم هو كلام تشبيهي قياسي، بمعنى اننا ننسب إلى الله ما هو من خصائص الإنسان. ولكن ما عساه ان يكون القول ان الله لا يتألم؟ انه كلام تشبيهي، قياسي، أكثر فأكثر".
وفي الصفحة22، يقول: "ان كان الله فيّ أقرب إليّ من نفسي لنفسي، وان كان من هناك من الداخل، ينظر إلى ضعفي وخطيئتي – وليس من اعالي برجه العاجي يراقبني – هل يا ترى لا يشعر بصدمة عنيفة في قلبه عند رؤيته اياي أضع ذاتي بخطيئتي على شفير الهاوية؟"
وفي الصفحة 16-17: "هل ممكن ام لا وجود شيء لدى الروح المحض، لا نستطيع ان نسميه نحن بكلام بشري، يكون على نوع قياسي، شبيهاً بدموعنا ودمنا؟" ...
وأليس هذا ما عناه المسيح حين تكلم على فرح السماء والملائكة والآب بخاطئ واحد يتوب اكثر منه بثبات تسعة وتسعين من الأبرار؟ (لوقا 15/ 7، 10، 32).
· إن الغفران مصالحة:
كلمة الغفران هي ذاتها كلمة المصالحة. بالخطيئة انفصلنا عن الله وابتعدنا... بالتوبة نعود إليه، فيقبلنا: "... وكان لم يزل بعيداً إذ رآه أبوه فأشفق عليه وأسرع إليه فألقى بنفسه على عنقه وقبّله طويلاً" (لوقا 15، 20).
الله الغني بالمراحم لا يغلق قلبه امام أي كان من أبنائه. انّه ينتظرهم جميعاً، لا بل يذهب في طلبهم، وينزل إلى قعر هاوية رفضهم وعزلتهم وانقساماتهم، ويدعوهم إليه، لا بل يحملهم على كتفه فرحاً، ويرجع بهم إلى البيت العائلي ويُجلسهم إلى مائدته، ويدور يتردد في خدمتهم. انّها فرحة الغفران والمصالحة تتحقق كل يوم في الكنيسة في سرّ التوبة. (راجع لوقا 15/ 3-7 ، 12/37).
هكذا الله يغفر. غفرانه، ليس "محو الخطيئة" او غض النظر عنها، كأنها لم تكن بل خلق جديد كياني، واعادة علاقات جديدة، علاقات محبّة مع الله ومع الأخوة.
هذه هي المصالحة الأولى، العظمى، الينبوعية، كما وصفها البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي "المصالحة والتوبة" (2/ 12/ 1984) عدد 4: عن هذه المصالحة تكلم الكتاب المقدس داعياً الناس إلى بذل كل الجهود الممكنة في سبيل تحقيقها (2 قورنتس 5 / 19-20). فهي عطيّة رحمة الله (روما 5/ 11). وتاريخ الخلاص كما وتاريخ البشريّة وتاريخ كلّ إنسان هو تاريخ هذه المصالحة العجيبة (قولسي 1/ 20). الله الآب شاء أن يصالح كل موجود بدم ابنه على الصليب، فيخلق لنفسه شعباً جديداً "عائلة المصالحين".
وكي تتحقق، تفترض هذه المصالحة التحرر من الخطيئة واستئصالها من بذورها. فلا مصالحة دون ارتداد القلب والعودة إلى الله من الصميم بالتوبة.
بـاختصــار نقــول:
1- التنقية من الخطيئة هي فعل باطني، فعل عودة إلى الله بملء الحرية والرضى. هذا الارتداد يفترض الإيمان والمحبة والرجاء، كما وانه يقتضي قبول سر التوبة الذي رسمه الرب في كنيسته لغفران الخطايا: "خذوا الروح القدس، من غفرتم لهم خطاياهم تغفر لهم..." (يوحنا 20/ 22).
2- اعمال التوبة عديدة، لا بل كل عمل من اعمالنا يمكن عيشه بروح التوبة، باسمنا الشخصي وباسم الكنيسة، لا بل باسم البشرية جمعاء، فنكمّل بجسدنا ما نقص من آلام المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة. (قولسي 1/ 24). فهنالك الأعمال الإلزامية وتلك الاختيارية:
أ- أعمال التوبة الإلزامية : انها ملازمة عيشنا اليومي، نابعة من قيامنا بواجبات حالتنا، وحملنا ثقل النهار وحرّه. (متى 20/ 12): احتكاكات واصطدامات، ازعاجات وجهود، اوجاع وأمراض، واخفاقات وأحزان وهموم...
ب- أعمال التوبة الاختيارية :بوسع كل إنسان مسيحي، لا بل يلزمه بروح السخاء والمحبة، ان ينتقي بعض الأعمال والممارسات، وإن لم تكن متوجبة عليه إلزاماً، فيقوم بها بنية المساهمة مع الربّ بسرّ فداء البشر. نعم انها اقل اهمية من الأعمال الإلزامية انما لا تستطيع النفوس المكرسة السخية اهمالها والتغاضي عنها : افعال سيطرة على الذات ولجم الحواس الباطنية والخارجية، والعقل، والإرادة، والذاكرة، والمخيلة، النظر والسمع والشمّ وكل متطلبات الجسد الأنانية، من شراب وطعام وملبس ونوم واستراحة...
3- التوبة ليست ليوم بل لكل يوم، وليست لإنسان واحد بل لكل الناس: "من منكم دون خطئية؟"... (يوحنا 8/ 7)، "ما من احد بار... ضلّوا جميعاً وفسدوا" (روما 3/ 10). والإصلاح لن ينتهي، يدوم ما دامت الحياة، كما ان خطر السقوط يهددنا في كل لحظة: "من كان واقفاً فليحذر الا يسقط". (1 قورنتس 10/ 12) لا بل "البار يسقط سبع مرات في النهار" (امثال 24/ 16).
الحياة المسيحيّة إذاً هي حياة توبة دائمة. والكنيسة ورغم انها مقدّسة، تحوي في حضنها الخطأة، وعليها أن تتطهر دوماً جادّة باستمرار إلى التوبة والتجدد. (دستور عقائدي في الكنيسة عدد 8).
الســؤال:
التوبة عمل باطني، كيف تعيشه؟ إلى أي حدّ تلعب العواطف دورها فيه وإلى أي حدّ يأخذ الإيمان والرجاء والمحبّة مكانتها فيه؟ ماذا تكون النتائج في كلا الحالتين؟.
"سرّ التـوبـة" (القسم الثاني)
كنّا بدأنا حديثنا عن سرّ التوبة بالتعريف عن معنى الخطيئة وذلك بحسب مفهوم الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. ثم انتقلنا للحديث عن مفهوم التوبة بشكل عام روحي. نتابع تفكيرنا اليوم في مفهوم التوبة وسوف نتوسّع في عرض عن "سرّ التوبة بحدّ ذاته" : أي مفاعيله، عناصره...
1- إذاً، على سؤال ما هي التوبة نجيب ونحن نضيف عما ذكرنا في القسم الأول من حديثنا، ما يلي:
هي باطنية تُعاش في الداخل هي ارتداد القلب. هي اعادة توجيه جذرية من الداخل لكل حياتنا. هي انسحاق القلب، هي عمليّة روحية داخليّة، عاشها المسيحيون الأولون بدموع وقلب منسحق. مسيحياً هي ارتداد إلى دينامية المحبّة، إلى اصالة الذات، إلى الله الحيّ. التوبة يعني الإنسان دخل إلى ذاته شعر بخطيئته. وندم عليها كفر عنها واراد الابتعاد عن كل المظالم والرجوع الى صوت الحق والضمير، اراد ان يبقى الله حياً فيه. لا يريد ان يموت الله فيه. التوبة هي اشتراك في فصح المسيح، المسيح مات على الصليب من اجل خطايانا، بموتي عن الخطيئة ابذل نفسي عن الله والآخرين. الله صالحنا بالمسيح وصالح العالم مع نفسه. كان هذا حدث الفصح: موت المسيح وقيامته. الإنسان التائب يشترك في فصح المسيح الخلاصي. تنعتق طبيعته البشريّة من ضعفها ليأخذ طبيعة الله وطبيعة الحياة. الخطيئة تُدخل الإنسان إلى الموت، المسيح بالتوبة يُدخل الإنسان إلى حالة القيامة والحياة.
إنطلاقاً من هذا المفهوم الروحي للتوبة كان يعّرف الآباء الروحيّون عن ثلاثة اشكال للتوبة. الصوم، الصلاة، الصدقة وهي كلها تعبير عن الارتداد الداخلي. ولقد ارتدت هذه الأشكال الثلاثة انواعاً متعددة من الممارسات للتعبير عن التغيير الجذري في حياة الشخص. كانت تتنوع الأعمال التكفيريّة للدلالة على التوبة، كان يبذل الإنسان جهداً عند عيش التوبة، دموع لخلاص نفسه واهتمام بالآخرين وممارسة اعمال المحبة. وكانت التوبة تُعاش يومياً بافعال مصالحة اهتمام بالمعوزين، تأديب ومحاسبة للذات، طلب ارشاد من الآخرين، تحمّل الأوجاع والاضطهادات، حمل الصليب كل يوم ممارسة سرّ القربان. هذه اعمال صوم وصلاة وصدقة ترد إلى التوبة.
أمّا في حياتنا التقويّة وبالأخص الليتورجية فان التوبة بارزة بشكل ملحوظ وملموس:
ففي حياتنا المسيحية اوقات للتوبة على مدار السنة الليتورجية، زمن الصوم، كل يوم جمعة تذكار موت المسيح كانوا يكثفون ممارسة التوبة، الرياضات الروحية، ساعات من النهار مكرّسة للتوبة، مسيرة الحج، مشاركة في اعمال الخير والرسالة. التوبة مجبولة في حياة الإنسان المسيحي وفي تاريخنا الكنسي.
قال يسوع المسيح اجمل وصف لحركة الارتداد والتوبة في مثل الإبن الشاطر. عاش فيالبؤس وبدد ثروته وانخزى في العمق، تأمل في الخيرات التي فقدها فعاش التوبة وقرر الرجوع الى ابيه. عرف انه مذنب وانه لا يستحق العودة. لكن الأب الرحيم بمحبته وسخائه رد لإبنه البنوة. هذه كانت عظمة الأب الرحيم، سرّ التوبة، عندما اكتشف بسبب خطيئتي ابوّة الله، يحضر الله ويحضنني. كم لي من الخطايا وكم لك من المراحم يا رب، لو وزنتها رحمتك اكبر من جبال خطاياي. رحمة الربّ ليست لنطمع بها، بل لنعرف ان المحبّة اقوى من الموت. الربّ يخلقنا انساناً جديداً إن عدنا عن خطايانا. مرتدون كثر اكتشفوا عظمة الله، حيث كثرت الخطيئة تكثر النعمة. التوبة هي طريق لذاتنا لنكتشف ضعفنا، والحرية الزائفة التي عشناها وفي نفس الوقت هي طريق خير وفرح لأن الربّ يفيض علينا مراحمه. اذا كان الكاهن يغفر الخطايا فلأن الله اعطاه السلطان، هي قدرة من الله، ليس الكاهن بشخصه يغفر بل باسم الربّ. وحده الله يغفر الخطايا، ويجعل الإنسان يتغلّب على ضعفه لأن محبّة الربّ اكبر بكثير من خطيئة الإنسان.
علينا ان نحب المصالحة والغفران والتوبة، وإلا نعتبره موجوداً لكشف بؤسنا، إنّه سرّ محبّة، علينا ان نحبّ هذا السرّ هو سرّ انقاذ الإنسان فعلياًَ، ليس المؤسف ان نخطئ بل ان نبقى في الخطيئة. المسيح احبنا على خشبة الصليب خشبة العار، حولها إلى خشبة خلاص. والكنيسة تُعطينا خشبة منبر التوبة، لنحبها لأنها تُذكّرنا بخشبة الصليب بنعمة الربّ الدائمة في حياتنا، بسرّ سخاء الربّ الذي لا يتوانى عن العمل من اجلنا وعن التضحية في سبيلنا.
2- التوبة في تاريخ الكنيسة، من وقت الرسل حتى يومنا.
سنتوقف على ثلاث حقبات:
أ) المرحلة الأولى، مع الرسل حتى القرن السادس: استناداً إلى وصيّة المسيح الذي قال للرسل خذوا الروح القدس، مَن غفرتُم خطاياه غُفِرتْ له. (لوقا 24): سيكرز بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم انطلاقاً من أورشليم وانتم شهود لذلك. لذا بشّر الرسل بالتوبة، منحوا مغفرة الخطايا من خلال المعموديّة. (اعمال 2): يقول بطرس توبوا وليعتمد كل منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم فتنالوا موهبة الروح القدس. بقي الأمر هكذا حتى اواسط القرن الثاني.
ونقرأ في كتاب الراعي لهرماس عن الذي خطئوا بعد المعموديّة كان لهم سبيل بالتوبة والتي كانت مثل المعموديّة لا تُمنَح إلاّ مرّة واحدة. وبقيت الكنيسة بهذا التقليد (مرّة واحدة مغفرة الخطايا) حتى القرن السادس. وكانت توجد لوائح عديدة من الخطايا تختلف من كنيسة إلى أخرى، لكن تنحصر تقريباً بثلاث: الجحود، القتل، والخيانة الزوجيّة. وكان في هذه الفترة الأسقف وحده يمنح المغفرة. لكن مع تكاثر عدد الجماعات المسيحيّة اوكل الأسقف هذه المهمة لأحد الكهنة. ونرى في القرن الرابع كاهن واحد فقط مختص بمنح سرّ التوبة.
وهذه هي التوبة التي عُرفت بالتوبة القانونية. طريقة ممارستها كانت تتضمن ثلاث مراحل: الدخول في صف التائبين، وكان يعترف الخاطئ بخطيئته سريا للأسقف او الكاهن. وهذا يتم في رتبة ليتورجيّة يرأسها الأسقف. ثانياً زمن التكفير وكان يمتدّ عدّة سنين حسب ما يحدده الأسقف او الكاهن المعرّف. ويلزم التائب حياة تقشّف: حرم من اكل اللحوم، تحريم من وظائف عامة، منع عن ممارسة العلاقات الجنسيّة. وكان التائب في زمن التكفير يحظّر عليه حتى المناولة. ثالثا: المصالحة والتقرب من المناولة، يضع الأسقف يده بحضور الجماعة المسيحيّة على رأس التائب يوم خميس الأسرار ويباركه يقبل توبته. ويبقى مع هذا العديد من القوانين الصارمة التي يحددها الأسقف او الكاهن.
ب) المرحلة الثانية في سرّ التوبة، من القرن السادس الى القرن الثالث عشر: هنا عرفت الكنيسة طريقة جديدة بدأت في الأديار، حيث الأتحاد المستمر مع الله بالصلاة والتجرد عن العالم. ولبلوغ هذا الهدف كان لا بدّ من ان يتتلمذ المبتدئون على يد راهب قديس ليقتدوا بسيرته الفاضلة ويرشدهم لتحقيق هدفهم الرهباني. وهنا كانوا يكشفون خلال حياتهم عن اختباراتهم وصعوباتهم وكانوا بنفس الوقت يعترفون بخطاياهم ويعطيهم قانوناً من الصلوات واعمال التقشف لإتمامها تكفيراً عن الخطايا. كان المرشد والمعرّف ليس ضرورياً ان يكون كاهناً وكانوا يقومون بمهمة الإرشاد الروحي. وعلى هذه المنوال كان العلمانيون يقصدون الأديار لطلب الإرشاد الروحي وللإعتراف ولأخذ الحلّة والقانون. وهذا ما نخبر عنه في تاريخ حياتنا: الأب الروحي، التقليد الذي دخل إلى كلّ الأديار ويتابع حتى اليوم.
ج) المرحلة الثالثة من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين: سنة 1215 قرر المجمع اللاتراني الرابع في القانون 21 الإعتراف السنوي الإلزامي لجميع المؤمنين منذ سنّ الرشد. الاعتراف يتم عند كاهن الرعيّة التي ينتمي اليها كلّ مؤمن. هذا ليتحقق من صحّة إيمان المسيحيين في عصر كثرت فيه البدع. وكانت الكنيسة تقول ان من لا يتقدّم من هذا الاعتراف السنوي يحرم من الكنيسة. وكما قلنا إلى جانبه نشأت في الأديار خاصة عند الرهبان الفرنسيسكان والدومينيكان عادة الاعتراف المتوافر مرة او مرتين في الأسبوع او كل يوم، استعملوها وسيلة للتنقية والتقدّم في الحياة الروحية. وانتقلت هذه العادة إلى العلمانيين وقد وجدوا فيها وسيلة للاشتراك في آلام المسيح وللتقرب من المناولة. مع نشوء الحركة البروتستانتية قاومت الكنيسة الكاثوليكية في الغرب نظرة لوثر وكالفن عن سرّ التوبة. لوثر كان يعتبر ان التوبة ليست سرّاً خاصاً بل مكمّلاً لسرّ المعموديّة او كسرّ ارتداد إلى المعموديّة. المسيح منح كنيسته سلطة حلّ الخطايا وربطها لكنه لم يؤسس الاعتراف المفصّل للخطايا. وكالفن ينكر على التوبة صفة السرّ يقول انها ذكرى المعموديّة. وبما انّهما لا يقرّان بسرّ الكهنوت بمعناه الكاثوليكي والأرثوذكسي لذا يعتبران الحل من الخطايا يمكن ان يكون على يد علمانيين.
ضد هذه الأفكار قرر المجمع التريدانتيني ثلاث امور:
اولاً واجب الإعتراف بالخطايا المميتة على الأقل مرّة في السنة،
ثانياً واجب الإقرار بالخطايا امام الكاهن ووحده يقدر ان يمنح الحلّة او يرفضها،
وثالثاً بالتأكيد على ان هذه القوانين ليست من وضع كنسي انما واضع السرّ هو المسيح.
ما اراده المسيح يستمر على مدى الزمن والمسيحيون يشتركون بممارسة سرّ التوبة بعودة دائمة إلى الكنيسة. والكنيسة هي التي تحدد، كما فعلت عبر الأجيال، طريقة ممارسة هذا السلطان. الإعتراف الفردي للكاهن مع طلب الإرشاد كان لإجيال من المسيحيين الوسيلة الفضلى للتنقية من الخطيئة والتقدم في الحياة المسيحيّة. قد يكون عصرنا الحاضر يشهد اهمالاً للإعتراف الفردي ورغم ذلك اقبالاً متواتراً على المناولة، هذا يجعلنا في حالة حيرة، ماذا نعمل؟
سنة 1972 اصدر البابا رسالة لتجديد سرّ التوبة، وتكلّم عن طرق ثلاث:
اولاً الإعتراف الفردي للكاهن ومنح الحلّة الفرديّة.
ثانياً الإعتراف الفردي للكاهن خلال رتبة توبة جماعيّة ويحصل التائب على حلّة فرديّة.
ثالثاً رتبة توبة جماعية مع حلة جماعيّة دون سماع الإعتراف الفردي شرط ان يسمح الأسقف بذلك وفي حالات معيّنة.
كيف نمارس هذا السرّ اليوم؟
الجوهري في هذا السرّ هو اللقاء الشخصي بيني انا الشخص التائب وبين الله الذي يعيد لي الخلاص. ومهما فتشنا عن صيغ، جميل ان نحافظ على هذا اللقاء مع الله، لأنه يُعطي الإنسان نعمة خاصة. إنّه لقاء دائم مع الله، سيد الخلاص.
1- ما هي عناصر سرّ التوبة؟
عناصر سرّ التوبة: فحص الضمير، الندامة، الإقرار بالخطايا، التكفير، الحلّة، الكفّارة.
1) فحص الضمير : انواع الضمير: في القواعد يوجد ضمير منفصل ومتّصل، كذلكَ في الحياة المسيحيّة يوجد ضمير منفصل وضمير متّصل بالله. الطلوب هو ان يكون ضميري متّصلاً بالله. الناس يتوزعون إلى ثلاث فئات:
ذات ضمير مخدّر يحولون الحرام إلى حلال.
ضمير موسوس: ادنى صغير يجعل منه جريمة كبيرة ولا يرى الخطيئة في حجمها وهذا طرف آخر وليس المطلوب.
وذات الضمير السليم هم الذي يرون الخطأ خطأً في حجمِه.
فحص الضمير هو إعادة قراءة الحياة يومياً ليرى الإيجابيات والسلبيات، ما قربّه وما ابعده. قراءة الحياة على الضوء الذي يمنحني اياه الله في حياتي.
2) الندامة : هي ليست مجرّد شعور بالإسف، هي ارتداد القلب في الداخل العودة في العمق لملاقاة الله. ويجب ان يصدر عنها افعال يعيشها التائب في داخله: محبّة الله فوق كل شيء. وتبقى ناقصة إذا لم يعد الإنسان إلى محبّة الله ويحاسب ذاته.
3) الإقرار بالخطايا: يسمح للإنسان مواجهة اعماله ضدّ الله ويتحمّل مسؤوليتها وهذا مهم حتى لا يعود إليها ثانية. وهذا جزء جوهري من سرّ التوبة، وهذه هي النقطة التى كثيرون منّا يقولون لماذا هذا الإقرار او يخجلون منه، ويعترضون على الإعتراف: لماذا اعترف واعود لخطيئتي؟ ماذا سيفكر بي المسيح اذا قلت خطيئتي؟ لماذا عليّ ان اتحمّل مسؤوليّة الماضي؟ البعض يعتبرون الإعتراف يشبه الجلوس امام الطبيب النفساني وهذا امر غير مرغوب. وما دامت محبّة الله تسبقنا، لماذا عليّ ان اعترف بخطيئتي؟ وكثيرون يعترفون لله مباشرة، وينسون درب الندامة والتواضع، وان كلام الكاهن وتوجيهه والحلّة التي يُعطينا اياها هي تأكيدات لما يمنحه الله. والبعض يعترضون ان الإعتراف اذلال، انما هو وقفة صدق مع الذات والله. الإعتراف إذا هو فعل تواضع، الإنسان عاشه بقلبه، يعبّر عنه امام الكاهن، وهذا وعي للخطيئة وتأكيد للغفران الذي احصل عليه من الله. ليس سهلاً ان اقول ما اقترفت من بشاعة، ولكن النعمة الكبيرة تلك التي احصل عليها من الله بواسطة الكاهن.
4) التكفير:توجد خطايا اقترفتها تجاه الله والآخرين وذاتي. عليّ ان اجد سبيلاً لاكفّر إذا اهنت آخر، وان أُعوِض. انا جحدت بالله اعوض بفعل إيمان كبير. التكفير تعويض عن الخطأ الذي تمّ في حياتي. وعليّ ان أعيشه بالعمق.
5) الحلّة : الأسقف والكاهن وحدهما يمنحاني غفران خطاياي.
6) الكفّارة : الكاهن يحدد ما عليّ ان اقوم باعمال رحمة او تقشّف وصلاة لأعوّض عن خطيئتي.
4 - ما هي مفاعيل سرّ التـوبـة؟
سر التوبة له مفاعيل في النفس الإنسانية وفي عيش الإنسان التائب، ككل الأسرار الباقية. ولسرّ التوبة اربعة مفاعيل عامّة يشرح عنها كتاب التعليم الديني للكنيسة الكاثوليكية، الصادر مؤخراً. هذا بالإضافة إلى المفاعيل الثانوية الأخرى كالراحة والسلام النفسي الذي يحصل عليه التائب، كالشعور بالتجدد والحمية إلى الإنطلاقة الجديدة. نتوقف عند المفاعيل الأساسيّة الأربعة:
"1"- اول مفعول هو المصالحة مع الله: يقول التعليم المسيحي في العدد 1468: كل مفعول سرّ التوبة ان يعيدنا إلى نعمة الله ويضمنا إليه في صداقة قصوى. ان الذي يُقبِلون إلى سرّ التوبة بقلب منسحق واستعداد ورع يشعرون من بعده بسلام الضمير وراحته ترافقهما تعزية روحية قويّة. ذلك بأن سرّ المصالحة مع الله يجلب لنا قيامة روحيّة حقيقيّة واسترداداً لما يملكه ابناء الله في حياتهم من كرامة وخيرات اثمنها صداقتنا مع الله.
"2" المفعول الثاني، في العدد 1469: هذا السرّ يصالحنا مع الكنيسة. فالخطيئة تحطم الشركة الأخوية. سرّ التوبة يصلحها ويرممها. وهو في هذا الصدد لا يشفي فقط من أُعيد الى الشركة الكنسيّة بل يُحدث أثراً محيياً في حياة الكنيسة التي المّت بها خطيئة احد اعضائها. فإذا ارتد الخاطئ إلى شركة القديسين وثبت فيها فهو يتقوّى بتبادل الخيرات الروحيّة بين جميع اعضاء جسد المسيح الحيّة. سواء الذين لا يزالون في دروب هذا الحياة ام الذين سبقونا إلى الوطن السماوي.
"3" المفعول الثالث: بهذا السرّ يستبق الخاطئ نوعاً ما بوضع ذاته تحت حكم الله الشفوق. هذا الحكم الذي سوف يخضع له في ختام حياته الدنيوية. لأننا الآن ونحن في قيد هذه الحياة يُترك لنا الخيار بين الحياة والموت. وليس لنا إلاّ التوبة باباً لدخول الملكوت الذي تنفينا منه الخطيئة الثقيلة. فعندما يرتدّ الخاطئ إلى المسيح بالتوبة والإيمان ينتقل من الموت إلى الحياة ولا يخضع للدينونة.
"4" المفعول الرابع: هو الغفران والغفرانات التي يحصل عليها الإنسان، هو النعمة الخاصة التي يحصل عليها الإنسان من خلال عطيّة ربّنا بنعمة المصالحة معه ومع الكنيسة. الغفرانات هي استحقاقات المسيح والقديسين التي يفيضها الربّ علينا من خلال التماسنا بتوبتنا الغفران منه.
5- مانح سـرّ التوبـة؟
بالعودة إلى نص التعليم المسيحي الديني للكنيسة الكاثوليكية في عدده 1461 نجد انّ المسيح قد وكّل إلى رسله خدمة المصالحة فالأساقفة خلفاؤهم والكهنة معاونو الأساقفة يوصلون القيام بهذه الخدمة. الأساقفة والكهنة هم الذين يملكون بقوة سرّ الكهنوت سلطان مغفرة الخطايا كلها باسم الآب والإبن والروح القدس.
هذه المغفرة التي تصالحنا مع الله والكنيسة. الأسقف هو الرأس المنظور في الكنيسة هو صاحب السلطان الأول في خدمة المصالحة، والكهنة يمارسون هذا السلطان بقدر ما ينتدبهم لهذه المهمة اسقفهم. الكاهن يأخذ الإذن من اسقفه ليمارس سرّ الإعتراف. وذلكَ ضمن الأبرشية. او البطريرك يمنح بعض الكهنة اذناً ليعرّفوا في كلّ المناطق، او قداسة البابا يمنح الإذن لكهنة ليعرّفوا في كل مكان. والأسقف الذي يحلّ من كل الخطايا يعطي هذا الإذن او بعضاً منه للكاهن. في حال خطر الموت يجوز لكل كاهن وإذا لم يُفوَّض إليه سماع الإعترافات ان يحلّ من كلّ خطيئة ومن كل حرم. حتى إذا لم يملك التفويض.
التعليم المسيحي :" 1465" عندما يقوم الكاهن يخدمة سرّ التوبة انّما يقوم بخدمة الراعي الصالح الذي يبحث عن النعجة الضالّة وخدمة السامري الرحيم الذي يضمّد الجروح والأب الذي ينتظر الإبن الشاطر ويرحّب به عند عودته والقاضي الذي لا يُحابي احداً ويصدر حكماً عادلاً ورحيماً. وقصارى القول ان الكاهن هو علامة محبّة الله ورأفته بالخاطئ واداتهما.
الخاطئ يخاف من خطيئته والكاهن يعيش هذا السرّ بنفس الرهبة، مسؤوليّته كبيرة وسامية.
الخاتمة:
إن سر المصالحة كالافخارستيا، ليست سرّ مرحلة من مراحل الحياة المسيحيّة الكبرى. بل هي سرّ "الطريق"، غالباً ما نمارسه. لذلكَ فهي تشكّل قضيّة في نظر الكثيرين.
(راجع ري مرميه: "تعالوا إلى المصالحة". الإعتراف اليوم؟ ، منشورات سنتريون، باريس. طبعة سادسة، 1975).
الســؤال : نطرح سؤاليـن عملييّـن، تكون الإجابة بحسب الخبرة.
1-ما هي فوائد الإعتراف المتكرر والمتواتر بكثرة، وما هي اخطاره؟
2- هل الإقرار بالخطايا يكفي للغفران؟ لماذا؟
الأب/ مجدي فوزي
مقدّمة أولى :
"المسيح قام حقاً قام!" ؛ إنه لقاؤنا الأول من بعد عيش مغامرة القيامة، واننا ع النسوة الثلاث أمام الحجر الذي دُحرجَ عند الفجر، فجر اليوم الأول من الأسبوع بعد مضي يوم السبت، وكانت قد اشرقت الشمس، كما يذكر إنجيل لوقا، نجد أننا نبدأ مغامرة جديدة، أي مسيرة حيّة ملؤها النعم والبركات، بمعنى آخر لم يعد شيء كما كان، "كل شيء صار جديداً" كما يقول بولس. نعم لقد "أشرقت شمس الأحد وتغيّر كل الموضوع"، القبر فارغ، الحجر دُحرج، النسوة كنَّ في حزن وصرن في فرح، الميت هوَ حيّ. نرجو أن تُشرق علينا شمس ذلكَ اليوم، اليوم الأول منَ الأسبوع حتى يتغيّر كل الموضوع ويصير كل شيء جديداً.
مقدّمة : بعد عرض معاني سرَّي المعموديّة والتثبيت، جاء موضوع الزواج كطرح استثنائي لظروف زمنيةّ ومستجدّات غير مقصودة. نعود اليوم إلى الطرح التسلسلي لمواضيعنا، تاركين متابعة معاني سرّ الزواج والمعطيات المتعلّقة به إلى ما بعد. لو أردنا اتباع المنطق القائل باسرار "التنشئة المسيحيّة"، لكان علينا اليوم طرح موضوع سرّ الإفخارستيا الذي يكمّل ترابط التنشئة المسيحيّة من معموديّة وتثبيت إلى شركة في الجذور وبالتالي الاتحاد بالجسد السرّي بطريقة فعليّة. لكننا نتبع منطقاً آخر ألا وهوَ ترابط سرّ التوبة أو الاعتراف بالمعموديّة، اذ كان يعتبره الأولون العماد الثاني؛ فكما أن المعموديّة تغسل من الخطايا هكذا هيَ "التـوبـة".
إن موضوع التوبة وسرّها طويلان، كثيرا المعطيات وغنيان بعناصرهما، لذا سنتوقف عنده خلال لقائين، وذلك لدرس النقاط التالية: (انطلاقاً من دراسات وابحاث متعددة استندنا عليها).
1- مفهوم الخطيئة.
2- معنى التوبة وتسمياتها.
3- تاريخ سرّ الاعتراف.
4- مانح سرّ التوبة.
5- عناصر سرّ التوبة.
6- مفاعيل سرّ التوبة.
1- مفهوم الخطيئة
الخطيئة هي رفض الإنسان لمحبة الله، إذ يسعى إلى تحقيق ذاته دون الله، كما ويسعى إلى تحقيق ذاته دو أي إنسان آخر، ودون أي قيم أو أخلاق أو إيمان. فالخطيئة إذا هيَ أن يرفض الإنسان الله والقيم والخلاص والإنسان قريبه.
إذا رجعنا إلى سفر التكوين في فصوله الأولى نكتشف معنى الخطيئة. عندما خلق الله الإنسان، أمره بعمل الخير. لكن الحيّة أغوت الإنسان؛ فبعد انجرافه بهذا الاغواء، سأل الله آدم: "أين انت؟".
اين انتَ؟ اختباً آدم، خاف، ابتعد عن الله. هذه كانت الخطيئة ببُعدها الأول: الإنسان الذي يبعد عن الله.
إذا تابعنا في سفر التكوين نصل إلى قايين وهابيل. قتل قايين اخاه، وسمع صوت الله يناديه: اين أخوك؟ قايين كان وقحاً: لعلي حارس لأخي؟ هذا البُعد الثاني من الخطيئة: عندما يتجاهل الإنسان أخاه الإنسان: كل مرة نتجاهل الإنسان الآخر تظهر فينا الخطيئة. هي رفض المحبة، تَنَكّر لمحبّة الله الذي يأخذ دائماً مبادرة تجاهنا؛ رفض لأن ندخل في علاقة محبّة مع الله، ورفض للمحبّة التي يجب ان نعيشها مع الإنسان الآخر. الله يبني بينه وبيننا حوار محبة كما بيننا وبين الآخرين. كلما انقطع هذا الحوار تبرز الخطيئة.
لكننا اليوم، نجد الكثيرين يرفضون الخطيئة، أو بمعنى أوضح، يرفضون الشعور بالخطيئة، يفقدون هذا الحس؛ يعود فقدان الشعور بالخطيئة إلى الأسباب التالية:
- تأثر بالإلحاد: الوجودية الملحدة تعتبر ان الإنسان يكوّن ذاته بذاته.
- تأثر بالبوذية: يعتبرون أن الخطيئة هي نقص موجود في الخليقة ويصحح بالذكاء والإجتهاد. هي مجرد نوع من الضعف وبجبلة الإنسان يصلّح.
- تأثر بكون الإنسان هو القيمة المطلقة. والخطئية ليست إلاّ إساءة إلى إنسان.
- تأثر بالكثير من علماء النفس الذين يعتبرون الخطيئة هي مجرد ضغوط موجودة من طفولتنا واليوم نحن كبرنا علينا ان نتحرر من طفولتنا، علينا الا نعيش في هذا النوع من التربية التي تفكك القيود وتطلق إلى الحريّة المطلقة.
- هناك مَن فقدوا شعورهم بالخطيئة لأن الكنيسة فقدت قيمتها عندهم، فهم يطيعون فقط العالم وحالته، فالخطيئة من اختراع الكنيسة.
كلّها امور جعلت الإنسان يفقد معنى الخطيئة. علينا أن نعي أن الخطيئة هي رفض لحبّ الله، هي أن ننصب ذاتنا مكان الله لذا نفقد شعورنا بالخطيئة.
أ) العهد القديم والخطيئة:
العبارات التي يستعملها العهد القديم عندما يحكي عن البشرية مستقاة من العلاقة البشرية: تقصير، تمرد، ظلم، إهانة... يعرف الخاطئ إنه فعل الشرّ في عيني الرب. يحكينا عن الخطيئة الأصليّة خطيئة الإنسان الأول وهي تمرد على حكم الله. ليس فقط التمرّد خارجياً، إنما ينبع من موقف داخلي في الإنسان الذي يدّعي انّه يحل محل الله. يرفض كل تبعيّة لله. الإنسان لا يريد صورة الله. الصداقة التي اراد الله أن يجعلها بينه وبين الإنسان رفضها الإنسان. هذه هي الخطيئة الأصلية. أفسدت علاقة الإنسان مع ذاته، والطبيعة، واغلقت الباب بين السماء والأرض، بين ذات الإنسان والله. والمبادرة من الله كانت لأعادة فتح الباب.
وفي العهد القديم يحكى عن خطيئة الشعب رغم ان الله غمر الاسرائليين بانعامه واعتق الشعب من عبوديّة مصر وكان دائماً إلى جانب الشعب وأراد أن يكون إلههم وهم أبناءه. أراد أن يسير معهم وكانت خطيئة الشعب رفض الاستسلام في يدي الله. كل الأنبياء كانوا ينادون بالتوبة وبالبعد عن الأمور التي تفصل عن الله، الأمور التي هي احتقار لمشيئة الرب. يتضح لنا من العهد القديم ان الخطيئة كانت تطال الله في قلبه، هي الإهانة الكبرى. لذا ان ربنا ليس إله فلاسفة إلهاً لا مبالياً وبعيداً؛ انّه إله محبّة، شعر بخطيئة الإنسان التي افسدت مشروع الخلق. أراد أن يُعيد المحبّة وكان الدواء ان أرسل انبياءه وابنه. التوبة واعمال الرحمة تشكّل كلّها الطريق إلى الله.
ب) العهد الجديد والخطئية:
(متى 1/ 21): أتى ليخلص شعبه من خطاياهم. (مرقس 10): فيبذل نفسه فداء عن كثيرين... .
في مثل السامري الصالح (لوقا 10) المسيح يعلّمنا انّ الخطيئة هي رفض المحبّة. يعلّمنا في مثل الأبن الشاطر أنّ الخطيئة هي انشطار عن الله. انتصر المسيح على الخطيئة، وانتصر اثناء التجربة على الشيطان. قبل أن ينتصر عليه طرده من الذين كان يسكن فيهم، قال لنا انّ الشيطان هو كذاب. وأيضاً يقول لنا مَن يفعل الشرّ يبغض النور. وهكذا اليهود ابغضوا المسيح واباه وقتلوه. هذه هي الخطيئة التي انتصر عليها المسيح لما تجسد وقبل الموت على الصليب ليمحو خطايانا.
وعند يسوع مواقف مهمة في العهد الجديد مع الخطأة: (مرقس 2): كان يجالسهم ويأكل معهم مما أثار غضب الكتبة (ليس الأصحاء بحاجة إلى طبيب بل المرضى)، علّمنا يسوع في مثل الإبن الشاطر رحمة الآب. كان مع الخطأة: مريم المجدلية، السامرية، زكا، بطرس، لص اليمين، مع صالبيه.
هو الراعي الصالح الذي يفتش عن الخروف الضال. يسوع تعامل مع الخطأة وأعطانا دواء هو الغفران ورحمة الله. علينا أن نطلب الغفران فيعطينا الله اياه بدون شرط. اذهب ولا تعود إلى الخطيئة من بعد. كرر يسوع هذا الكلام. توبوا، هذه دعوة يسوع الدائمة. عودوا إلى الآب السماوي، لننبذ الخطيئة ولنعد الى الطفولة ولنرتم بثقة بين يدي الله ولنلبس الإنسان الجديد ولنولد الى النور.
أسس يسوع سرّ التوبة: قال لبطرس على هذا الصخرة ابني كنيستي واعطاه مفاتيح ملكوت السماء، كل ما تحلّه يكون محلولاً في السموات. عند المسيح السلطان ليغفر الخطايا وقد سلمه إلى مار بطرس والرسل، هذا هو تعامل المسيح الذي افتدى العالم.
الخطيئة هي تعطيل حوار المحبة ان كان مع الله أو مع الإنسان.
* هناك خطايا نشعر اننا بها قد جرحنا الله والآخر، ولكن هذه الإهانة عرضيّة بسيطة. امّا الخطيئة المميتة فهي شرّ كبير وخطر كبير، نوعا ما موت، لذا هي خطايا مميتة. وفي الكتاب المقدّس تلميح حول كون الإنسان يقدر بخطيئته ان يُميت الله وأخاه الإنسان هذا ما نسمّيه خطيئة مميتة اي قلب الإنسان الذي خلا من محبّة الله، أصبح جاحداً وقد أهان القريب في الصميم.
* يوجد وجهان للخطيئة، ليست الخطيئة ان اتحاشى الشرّ فقط. هذا امر ناقص. الخطيئة هي نقص ايضاً في عمل الخير. الحياة المسيحية ليست جامدة او عدم أذى. إن الله يدعونا لأخذ المبادرة لعمل الخير. الخطيئة موجودة حين لا آخذ مبادرة للخير. نحدد خطايانا انطلاقاً من الوصايا التي قدمها لنا الربّ، الوصايا العشر أو الوصيّة العظمى التي أعطانا اياها يسوع المسيح: احبب الربّ إلهك وقريبك كنفسك. مخالفة هذه الوصايا هي الخطيئة. الوصايا العشر توسيع لوصية يسوع. الوصايا العشر وصايا نفي، (لا لا لا) المسيح اختصرها، لا تتحاشوا فقط بل احببوا بصيغة الإيجاب. يجب الا تبقى الخطيئة فقط عندنا مخالفة الشرائع، هي رفض الإنسان لله ولأخيه الإنسان وما ينقص الإنسان من مبادراته لعمل الخير.
2- معنى التوبة وتسمياتها
لقد أطلِقَ على سرّ التوبة عدّة تسميات انطلاقاً منَ المفاهيم التي يحمل.
نورد أهمّ هذه التسميات مع ايضاحاتها:
- سرّ الهداية او الارتداد: في التوبة يوجد إنسان مرتدّ إلى الآب.
- سرَ التوبة: من جوهر هذا السرّ هو عيش داخل الإنسان الذي رجع إلى ذاته
- سرّ الإعتراف: من جوهر هذا السرّ هو الإعتراف أمام الله والكاهن.
- سرّ الغفران: علاقة الربّ معنا.
- سرّ المصالحة: الإنسان صالَحَ ذاته معَ الله وأخيه الإنسان.
أ- أمّا في ما يخص معنى التوبة أو مفهومها، فبالعودة إلى الكلمة الموحاة نجد أنّه في إنجيل متى، كما في إنجيل مرقس، يبدأ يسوع تبشيره بالدعوة إلى التوبة.
في متى، ترتبط هذا الدعوة باقتراب ملكوت السماوات "...تـوبـوا قد اقترب ملكـوت السماوات". اما في مرقس فترتبط بالإيمـان "...توبـوا وآمنـوا بالإنجيـل" (متى 4/ 17 مرقس 1/ 15).
بهذا يتميّز يسوع عمن سبقه من انبياء، بما فيهم المعمدان، رغم التشابه الكلامي. فالتوبة التي إليها يدعو، ليست فقط عملاً بشرياً وجهداً إنسانياً. إنّها نعمة، هبة إلهيّة، هبة الخلاص، لأن الله وحده بوسعه أن يدعو اليها ويمنحها. لذلك تفترض الإيمان، والقبول المجاني بتواضع: "ان لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال لا تدخلوا ملكوت السماوات" (متى 18/ 7).
وعليه لا دخول إلى الملكوت، دون توبة، وبالتالي لا حياة إنجيلية، ولا حياة روحية. فالتوبة قيمة إنجيلية أساسية ومختصر الحياة المسيحية وليس فقط فضيلة من عداد الفضائل (راجع البابا بولس السادس، دستور رسولي في التوبة 1966، عدد 11، 12، 17) انها ولادة جديدة لحياة جديدة. "تبديل جذري" كامل، في عمق اعماق قلب الإنسان وكيانه – افكار، نوايا، عواطف، أحكام ومسلك – بها يهتدي الإنسان إلى معرفة الحق فيخلص ( 1 طيم 2/ 4). التوبة وصيّة إلهية ضرورية ضرورة الواسطة للخلاص : "إن لم تتوبوا، تهلكوا بأجمعكم" (لوقا 13/ 3-5)، وبالتالي فأننا نفهم التوبة :
ب - أنها ارتداد وندامة:
يولد الإنسان في غربة عن نفسه وعن الله. وتتعمق هذه الغربة بفعل ما يرتكبة في حياته من خطايا. فالخطيئة هي واقع إنساني مرير: "جميعهم قد خطئوا فحرموا مجد الله" (روما 3/ 23). هي ابتعاد عن الله، نسيانه والتمرد عليه، عدم الإصغاء لكلمته وبالنتيجة تركه والتنكّر له والتخلّي عنه وحتى إنكار وجوده: "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مزمور 13/ 1).
اما التوبة فهي بالتمام عكس ذلك: ابتعاد عن الخطيئة، وتخلٍّ عنها وتحرر من عبوديتها، نبذها واقتلاعها من حياتنا؛ وبالنتيجة ارتداد إلى الله وعودة إليه ومن ثمّ عودة إلى الذات فانسحاق للقلب:
· عودة إلى الله:
نقطة الانطلاق في التوبة هي هذه: اكتشاف الله في حياتنا، وعي إيماني على حضوره ودوره، على محبته ورحمته. الإبن الضال تاب وعاش لأنه عاد إلى أبيه (لوقا 15/ 17-20). والمرأة الخاطئة بكت وبللت قدمي يسوع بدموعها ومسحتهما بشعرها وقبّلتهما ودهنتهما بالطيب فنالت الغفران لأنها تلّمست في وجه يسوع رحمة الله. إيمانها خلّصها (لوقا 7/ 38-50). المبادرة هي من الله، هو يدعو إلى التوبة، "ما من أحد يستطيع أن يأتي اليّ إلاّ اذا اجتذبه الآب الذي ارسلني" (يوحنا 6/ 44).
العودة إلى الله هي فعل إيمان بمحبته، ورحمته، واستعداده الدائم ليغفر ويسامح. وحده يتوب، الإنسان الذي اكتشف الله الذي يعفو عن الذنب. "حقيقة خطيئتي لا تنكشف امام ضميري إلاّ بمقدار وعيي الإيماني أنني موضوع محبّة من الله. والعكس بالعكس إن لم اعترف بمحبة الله لن استطيع معرفة ذاتي خاطئاً." (غبريال مارسل)
والعودة إلى الله هي مسيرة شاقة في الدرب الصاعدة نحو الاقتداء بالآب كالأبناء الأحباء، والسير في المحبّة سيرة المسيح الذي أحبّنا وبذل نفسه لأجلنا (أفسس 5/ 1-2) "أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له: "يا أبت انّي خطئت إلى السماء وإليك". (لوقا 15/ 18)
· عودة إلى الذات:
العودة إلى الله تعيدنا إلى ذاتنا. الإبن الضال لم "يرجع إلى نفسه" (لوقا 15/ 17) الا لأنه تذكر أباه والأجراء عند أبيه الذين يفضل عنهم الخبز، بينما هو في شقاء يهلك جوعاً.
هذه العودة إلى الذات هي يقظة على ضعفنا، وبؤسنا ودعوتنا. في ضوء وجه الآب، نرى نفسنا على عريها، ونفهم خطأنا وخطيئتنا. نذكر من اين سقطنا وكيف تركنا حبّنا الأول، وكيف قبلنا الكلام ولم نحفظه. (رؤيا 2/ 4-5، 3/3).
كلمة الله تنير ظلماتنا وتوقظ ضميرنا، وتديننا (يو 12/ 48) تجعلنا نلمس لمس اليد "مرض قلبنا الشرير"، فلا نعود نحاول تبرئة ذاتنا ولا تقديم الأعذار التخفيفية. بل نرتمي على اقدام الصليب صارخين مع العشار: "اللهم ارحمني انا الخاطئ" (لوقا 18/ 14). وفي وجه إلهنا المصلوب، نكتشف في آن واحد رحمة الله اللامتناهية وفظاعة خطيئتنا اللامحدودة. ندرك ان الخطيئة هي شر أصابنا نحن والقريب، بل أصاب الله بالذات. فلا مجال بعد للأدعاء الخادع انّي حرّ بنفسي وانّي حين ارتكب الشر لا أُلحق الضرر الاّ بنفسي فقط.
ان الله يصاب في كل إنسان مضروب بالخطيئة. وحين أجرح ذاتي انا الذي ارتضي الله واحبّه، أجرح الله وأجرح الآخرين.
· القلب المنسحق:
القلب المنسحق هو قلب المؤمن الذي يعترف انه لن يكون ابداً "باراً" وان ليس له مستقبل سوى ان يكون خاطئاً – نال الغفران". يعترف ان خطيئته اكبر من ان تغتفر ولكن يؤمن ان الله بمحبته قد غفر له، فبدّل "اصل المرارة" (عبرانيين 12/ 15) والشعور بالذنب الى "عذوبة المعانقة الأبوية" وبالتالي إلى "دموع فرحة العيد". وهذا هو الفرق بين يوضاص وبطرس. بطرس عرف ذنبه فبكى بكاءً مرّاً (متى 26/ 75) وتذكر كلمة يسوع وآمن بمحبته. اما يوضاص، فعرف ذنبه واعترف انه اسلم دماً بريئاً (متى 27/ 4) ولكنه لم يعد إلى الله وبالتالي لم يندم ولم يتب. بقي على مستوى حكمه الذاتي على نفسه، فوقع في اليأس وشنق نفسه.
القلب المنسحق، خطيئته امامه في كل حين (مزمور 50 او 51)، ولا يسعى ان ينساها لأنها اصبحت له "عربون محبة الله له وموضع لقائه بالله". وهذا ما يجعله يبكي دائماً دموع التوبة، وهو يتأمل دون انقطاع الرفض الإنساني للحب المصلوب. بهذا المعنى كتب يوحنا السلمي في كتابة "سلم الفردوس" (7/ 37) "لن يعاتبنا الله يوم الدينونة ولن يلومنا على اننا لم نصنع المعجزات... بل سنعطي جواباً على اننا لم نبكِ دائماً خطايانا."
دموع انسحاق القلب، لا تتنافى مع دموع الفرح، وتكمّل مفعول مياه المعمودية.
"ندامة كهذه هي عودة من المنفى الى الله" (يوحنا الدمشقي).
"أسلم نفسك إلى انسحاق القلب، تجد التقوى" (الإقتداء بالمسيح 1/ 21).
ج - إنّها غفران ومصالحة:
"ان الخطيئة لا تدرك بذاتها ولا لأجل ذاتها بل بنور محبة الله الغافرة".
(Sagne, Tes péchés ont été pardonnés, chalet 1977 p. 26)
نحن لا نؤمن بالخطيئة، بل بغفران الخطايا. وبمقدار ما ينفتح الإنسان على هذا الغفران، بمقدار ذلك يستطيع ان يعترف بخطاياه. الخطيئة إذاً هي "ثمرة وحي": وحي غفران الآب: "إذا اعترفنا بخطايانا فإنّه أمين عادل يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كلّ أثم..." (ا يو 1/ 9).
وحياة التوبة تبدأ بقبول الغفران في ضوء هذا الوحي. نسأل إذاً عن غفران الله، وغضب الله، والمصالحة التي نعيش معه.
· ما هو غفران الله:
لا يغفر الله كما يغفر الناس. الإنسان يغفر عن أنانية خفية، او حسابات سياسية، او تطلعات مثالية، عن رفعة او احتقار وازدراء. يطيب له ان يرى نفسه اعلى من خصم يلتمس منه المعذرة. ويغفر الإنسان عن ضعف كالأب السموح الذي يتظاهر انه لم يلحظ خطأ ابنه. او كالمربّي المتواطئ الذي يغض النظر عن سوء تصرف تلميذه. او كالصديق المتورط الذي يعذر صديقه ويجد له الأسباب التخفيفية ان لم يتملقه ويجعل نقائصه حسنات محببة.
أمام خطيئة الإنسان، الله لا يقطع الأمل بالإصلاح ولا ينزع ثقته ومحبته، ولا يعتبر خيانة اليوم مانعاً يتنافى مع أمانة الغد. غفران الله فعل حرية من محبته الخلاقة والفادية. به يحفظ الله محبته للإنسان الخاطئ لا بل يجددها. ومجانية الحب تصبح هنا رحمة لا حدود لها ولا عائق... موقف الإنسان من خطيئة قريبه موقف المقتصّ او موقف المتغاضي. اما الله فبوسعه ان يدلّ بالإصبع إلى إثمنا، ويضع يده على الجرح، ويقول الكلمة الشافية التي لا تشكو الا لتعتُق وتحرر. تقول لنا، كما لداود، "انتَ هوَ الرجل" وبذات الوقت تعزّي وتُضمّد وتشفي بقولها: "قد نقلت خطيئتك عنك فلا تموت". ( 3 صموئيل 12/ 7 و 13)
· ما معنى غفران الله وغضبه:
مراراً ذكر الكتاب غضب الله. لننتبه الا نأخذ هذا العبارة بالمفهوم البشري. عدم ثقة، احتقار، رغبة انتقام، عنف وعداوة وبغض.
غضب الله وجه من وجوه محبته، المتألمة، التواقة الى تحقيق ما تصبو اليه، فتقف بوجهها حرية الإنسان وتقيد قدرة الله اللامتناهية. في هوشع 11/ 7-9 ، يشكو الربّ من اسرائيل الذي تشبث بالارتداد عنه ولم يتجاوب مع دعوة العلي، فيقول: "كيف اعاملك يا اسرائيل وأصنع بك يا افرائيم... قد انقلب فيّ فؤادي واضطرمت مراحمي. لا أنفذ وغر غضبي ولا اهتمّ بعد بتدمير افرائيم لأنّي انا الله لا إنسان."
وبدوره الرسول بولس يؤكد لنا: "ان الله لم يجعلنا لغضبه بل لنيل الخلاص بربنا يسوع المسيح الذي مات من اجلنا لنحيا معه جميعاً" (1 تسالونيكي 5/ 9-10) فالله هو إله الرحمة، يحتمل بصبر عظيم "أنية الغضب" داعياً اياها إلى التوبة، لتصبح "أنية الرحمة" وتتحول من "غير محبوبة إلى محبوبة" والذين ليسوا بشعبه يصبحون "أبناء الله الحيّ المعدّين للمجد". (روما 9/ 22-26).
ومَن ينجّينا منَ الغضب الآتي؟ ليست الشريعة بل المسيح الذي بدمه ننال البرّ وبه ننجو من الغضب (روما 5/ 10، 2/5 و 1 تسالونيكي 1/ 10). فهو حمل الله الحامل خطايا العالم (يو 1/ 29) الذي أسلمه الآب لأجل جميعنا (روما 8/ 32) فجعله لعنةً لأجلنا لكي نحصل به على البركة (غلاطية 3/ 13-14).
من هذا التدبير نفهم كم ان الخطيئة ليست هي "شر للإنسان" فقط، بل "شر لله" ايضاً. انما ليس بمعنى انها تطاله في كمالاته وتنقص من مجده، بل بمعنى انه يتألم ألم المحبّ الذي لم يجد تجاوباً عند الحبيب، ويزداد ألمه الماً للخراب الذي جلبه الحبيب على نفسه بعدم تجاوبه. ولا نعجب من هذا اذ ان "الدخول في الحب هو تسليم الذات، دون حماية، وإلى اقصى أنواع العذاب، عذاب الرفض والترك من قبل من نحب".
(Olivier Clement; Questions sur l`homme, stock 1972, p. 46)
من جهته Varillon في كتابه، "La souffrance de Dieu, Centurion 1975 p. 53, " كتب قائلاً: "أن القول ان الله يتألم هو كلام تشبيهي قياسي، بمعنى اننا ننسب إلى الله ما هو من خصائص الإنسان. ولكن ما عساه ان يكون القول ان الله لا يتألم؟ انه كلام تشبيهي، قياسي، أكثر فأكثر".
وفي الصفحة22، يقول: "ان كان الله فيّ أقرب إليّ من نفسي لنفسي، وان كان من هناك من الداخل، ينظر إلى ضعفي وخطيئتي – وليس من اعالي برجه العاجي يراقبني – هل يا ترى لا يشعر بصدمة عنيفة في قلبه عند رؤيته اياي أضع ذاتي بخطيئتي على شفير الهاوية؟"
وفي الصفحة 16-17: "هل ممكن ام لا وجود شيء لدى الروح المحض، لا نستطيع ان نسميه نحن بكلام بشري، يكون على نوع قياسي، شبيهاً بدموعنا ودمنا؟" ...
وأليس هذا ما عناه المسيح حين تكلم على فرح السماء والملائكة والآب بخاطئ واحد يتوب اكثر منه بثبات تسعة وتسعين من الأبرار؟ (لوقا 15/ 7، 10، 32).
· إن الغفران مصالحة:
كلمة الغفران هي ذاتها كلمة المصالحة. بالخطيئة انفصلنا عن الله وابتعدنا... بالتوبة نعود إليه، فيقبلنا: "... وكان لم يزل بعيداً إذ رآه أبوه فأشفق عليه وأسرع إليه فألقى بنفسه على عنقه وقبّله طويلاً" (لوقا 15، 20).
الله الغني بالمراحم لا يغلق قلبه امام أي كان من أبنائه. انّه ينتظرهم جميعاً، لا بل يذهب في طلبهم، وينزل إلى قعر هاوية رفضهم وعزلتهم وانقساماتهم، ويدعوهم إليه، لا بل يحملهم على كتفه فرحاً، ويرجع بهم إلى البيت العائلي ويُجلسهم إلى مائدته، ويدور يتردد في خدمتهم. انّها فرحة الغفران والمصالحة تتحقق كل يوم في الكنيسة في سرّ التوبة. (راجع لوقا 15/ 3-7 ، 12/37).
هكذا الله يغفر. غفرانه، ليس "محو الخطيئة" او غض النظر عنها، كأنها لم تكن بل خلق جديد كياني، واعادة علاقات جديدة، علاقات محبّة مع الله ومع الأخوة.
هذه هي المصالحة الأولى، العظمى، الينبوعية، كما وصفها البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي "المصالحة والتوبة" (2/ 12/ 1984) عدد 4: عن هذه المصالحة تكلم الكتاب المقدس داعياً الناس إلى بذل كل الجهود الممكنة في سبيل تحقيقها (2 قورنتس 5 / 19-20). فهي عطيّة رحمة الله (روما 5/ 11). وتاريخ الخلاص كما وتاريخ البشريّة وتاريخ كلّ إنسان هو تاريخ هذه المصالحة العجيبة (قولسي 1/ 20). الله الآب شاء أن يصالح كل موجود بدم ابنه على الصليب، فيخلق لنفسه شعباً جديداً "عائلة المصالحين".
وكي تتحقق، تفترض هذه المصالحة التحرر من الخطيئة واستئصالها من بذورها. فلا مصالحة دون ارتداد القلب والعودة إلى الله من الصميم بالتوبة.
بـاختصــار نقــول:
1- التنقية من الخطيئة هي فعل باطني، فعل عودة إلى الله بملء الحرية والرضى. هذا الارتداد يفترض الإيمان والمحبة والرجاء، كما وانه يقتضي قبول سر التوبة الذي رسمه الرب في كنيسته لغفران الخطايا: "خذوا الروح القدس، من غفرتم لهم خطاياهم تغفر لهم..." (يوحنا 20/ 22).
2- اعمال التوبة عديدة، لا بل كل عمل من اعمالنا يمكن عيشه بروح التوبة، باسمنا الشخصي وباسم الكنيسة، لا بل باسم البشرية جمعاء، فنكمّل بجسدنا ما نقص من آلام المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة. (قولسي 1/ 24). فهنالك الأعمال الإلزامية وتلك الاختيارية:
أ- أعمال التوبة الإلزامية : انها ملازمة عيشنا اليومي، نابعة من قيامنا بواجبات حالتنا، وحملنا ثقل النهار وحرّه. (متى 20/ 12): احتكاكات واصطدامات، ازعاجات وجهود، اوجاع وأمراض، واخفاقات وأحزان وهموم...
ب- أعمال التوبة الاختيارية :بوسع كل إنسان مسيحي، لا بل يلزمه بروح السخاء والمحبة، ان ينتقي بعض الأعمال والممارسات، وإن لم تكن متوجبة عليه إلزاماً، فيقوم بها بنية المساهمة مع الربّ بسرّ فداء البشر. نعم انها اقل اهمية من الأعمال الإلزامية انما لا تستطيع النفوس المكرسة السخية اهمالها والتغاضي عنها : افعال سيطرة على الذات ولجم الحواس الباطنية والخارجية، والعقل، والإرادة، والذاكرة، والمخيلة، النظر والسمع والشمّ وكل متطلبات الجسد الأنانية، من شراب وطعام وملبس ونوم واستراحة...
3- التوبة ليست ليوم بل لكل يوم، وليست لإنسان واحد بل لكل الناس: "من منكم دون خطئية؟"... (يوحنا 8/ 7)، "ما من احد بار... ضلّوا جميعاً وفسدوا" (روما 3/ 10). والإصلاح لن ينتهي، يدوم ما دامت الحياة، كما ان خطر السقوط يهددنا في كل لحظة: "من كان واقفاً فليحذر الا يسقط". (1 قورنتس 10/ 12) لا بل "البار يسقط سبع مرات في النهار" (امثال 24/ 16).
الحياة المسيحيّة إذاً هي حياة توبة دائمة. والكنيسة ورغم انها مقدّسة، تحوي في حضنها الخطأة، وعليها أن تتطهر دوماً جادّة باستمرار إلى التوبة والتجدد. (دستور عقائدي في الكنيسة عدد 8).
الســؤال:
التوبة عمل باطني، كيف تعيشه؟ إلى أي حدّ تلعب العواطف دورها فيه وإلى أي حدّ يأخذ الإيمان والرجاء والمحبّة مكانتها فيه؟ ماذا تكون النتائج في كلا الحالتين؟.
"سرّ التـوبـة" (القسم الثاني)
كنّا بدأنا حديثنا عن سرّ التوبة بالتعريف عن معنى الخطيئة وذلك بحسب مفهوم الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. ثم انتقلنا للحديث عن مفهوم التوبة بشكل عام روحي. نتابع تفكيرنا اليوم في مفهوم التوبة وسوف نتوسّع في عرض عن "سرّ التوبة بحدّ ذاته" : أي مفاعيله، عناصره...
1- إذاً، على سؤال ما هي التوبة نجيب ونحن نضيف عما ذكرنا في القسم الأول من حديثنا، ما يلي:
هي باطنية تُعاش في الداخل هي ارتداد القلب. هي اعادة توجيه جذرية من الداخل لكل حياتنا. هي انسحاق القلب، هي عمليّة روحية داخليّة، عاشها المسيحيون الأولون بدموع وقلب منسحق. مسيحياً هي ارتداد إلى دينامية المحبّة، إلى اصالة الذات، إلى الله الحيّ. التوبة يعني الإنسان دخل إلى ذاته شعر بخطيئته. وندم عليها كفر عنها واراد الابتعاد عن كل المظالم والرجوع الى صوت الحق والضمير، اراد ان يبقى الله حياً فيه. لا يريد ان يموت الله فيه. التوبة هي اشتراك في فصح المسيح، المسيح مات على الصليب من اجل خطايانا، بموتي عن الخطيئة ابذل نفسي عن الله والآخرين. الله صالحنا بالمسيح وصالح العالم مع نفسه. كان هذا حدث الفصح: موت المسيح وقيامته. الإنسان التائب يشترك في فصح المسيح الخلاصي. تنعتق طبيعته البشريّة من ضعفها ليأخذ طبيعة الله وطبيعة الحياة. الخطيئة تُدخل الإنسان إلى الموت، المسيح بالتوبة يُدخل الإنسان إلى حالة القيامة والحياة.
إنطلاقاً من هذا المفهوم الروحي للتوبة كان يعّرف الآباء الروحيّون عن ثلاثة اشكال للتوبة. الصوم، الصلاة، الصدقة وهي كلها تعبير عن الارتداد الداخلي. ولقد ارتدت هذه الأشكال الثلاثة انواعاً متعددة من الممارسات للتعبير عن التغيير الجذري في حياة الشخص. كانت تتنوع الأعمال التكفيريّة للدلالة على التوبة، كان يبذل الإنسان جهداً عند عيش التوبة، دموع لخلاص نفسه واهتمام بالآخرين وممارسة اعمال المحبة. وكانت التوبة تُعاش يومياً بافعال مصالحة اهتمام بالمعوزين، تأديب ومحاسبة للذات، طلب ارشاد من الآخرين، تحمّل الأوجاع والاضطهادات، حمل الصليب كل يوم ممارسة سرّ القربان. هذه اعمال صوم وصلاة وصدقة ترد إلى التوبة.
أمّا في حياتنا التقويّة وبالأخص الليتورجية فان التوبة بارزة بشكل ملحوظ وملموس:
ففي حياتنا المسيحية اوقات للتوبة على مدار السنة الليتورجية، زمن الصوم، كل يوم جمعة تذكار موت المسيح كانوا يكثفون ممارسة التوبة، الرياضات الروحية، ساعات من النهار مكرّسة للتوبة، مسيرة الحج، مشاركة في اعمال الخير والرسالة. التوبة مجبولة في حياة الإنسان المسيحي وفي تاريخنا الكنسي.
قال يسوع المسيح اجمل وصف لحركة الارتداد والتوبة في مثل الإبن الشاطر. عاش فيالبؤس وبدد ثروته وانخزى في العمق، تأمل في الخيرات التي فقدها فعاش التوبة وقرر الرجوع الى ابيه. عرف انه مذنب وانه لا يستحق العودة. لكن الأب الرحيم بمحبته وسخائه رد لإبنه البنوة. هذه كانت عظمة الأب الرحيم، سرّ التوبة، عندما اكتشف بسبب خطيئتي ابوّة الله، يحضر الله ويحضنني. كم لي من الخطايا وكم لك من المراحم يا رب، لو وزنتها رحمتك اكبر من جبال خطاياي. رحمة الربّ ليست لنطمع بها، بل لنعرف ان المحبّة اقوى من الموت. الربّ يخلقنا انساناً جديداً إن عدنا عن خطايانا. مرتدون كثر اكتشفوا عظمة الله، حيث كثرت الخطيئة تكثر النعمة. التوبة هي طريق لذاتنا لنكتشف ضعفنا، والحرية الزائفة التي عشناها وفي نفس الوقت هي طريق خير وفرح لأن الربّ يفيض علينا مراحمه. اذا كان الكاهن يغفر الخطايا فلأن الله اعطاه السلطان، هي قدرة من الله، ليس الكاهن بشخصه يغفر بل باسم الربّ. وحده الله يغفر الخطايا، ويجعل الإنسان يتغلّب على ضعفه لأن محبّة الربّ اكبر بكثير من خطيئة الإنسان.
علينا ان نحب المصالحة والغفران والتوبة، وإلا نعتبره موجوداً لكشف بؤسنا، إنّه سرّ محبّة، علينا ان نحبّ هذا السرّ هو سرّ انقاذ الإنسان فعلياًَ، ليس المؤسف ان نخطئ بل ان نبقى في الخطيئة. المسيح احبنا على خشبة الصليب خشبة العار، حولها إلى خشبة خلاص. والكنيسة تُعطينا خشبة منبر التوبة، لنحبها لأنها تُذكّرنا بخشبة الصليب بنعمة الربّ الدائمة في حياتنا، بسرّ سخاء الربّ الذي لا يتوانى عن العمل من اجلنا وعن التضحية في سبيلنا.
2- التوبة في تاريخ الكنيسة، من وقت الرسل حتى يومنا.
سنتوقف على ثلاث حقبات:
أ) المرحلة الأولى، مع الرسل حتى القرن السادس: استناداً إلى وصيّة المسيح الذي قال للرسل خذوا الروح القدس، مَن غفرتُم خطاياه غُفِرتْ له. (لوقا 24): سيكرز بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم انطلاقاً من أورشليم وانتم شهود لذلك. لذا بشّر الرسل بالتوبة، منحوا مغفرة الخطايا من خلال المعموديّة. (اعمال 2): يقول بطرس توبوا وليعتمد كل منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم فتنالوا موهبة الروح القدس. بقي الأمر هكذا حتى اواسط القرن الثاني.
ونقرأ في كتاب الراعي لهرماس عن الذي خطئوا بعد المعموديّة كان لهم سبيل بالتوبة والتي كانت مثل المعموديّة لا تُمنَح إلاّ مرّة واحدة. وبقيت الكنيسة بهذا التقليد (مرّة واحدة مغفرة الخطايا) حتى القرن السادس. وكانت توجد لوائح عديدة من الخطايا تختلف من كنيسة إلى أخرى، لكن تنحصر تقريباً بثلاث: الجحود، القتل، والخيانة الزوجيّة. وكان في هذه الفترة الأسقف وحده يمنح المغفرة. لكن مع تكاثر عدد الجماعات المسيحيّة اوكل الأسقف هذه المهمة لأحد الكهنة. ونرى في القرن الرابع كاهن واحد فقط مختص بمنح سرّ التوبة.
وهذه هي التوبة التي عُرفت بالتوبة القانونية. طريقة ممارستها كانت تتضمن ثلاث مراحل: الدخول في صف التائبين، وكان يعترف الخاطئ بخطيئته سريا للأسقف او الكاهن. وهذا يتم في رتبة ليتورجيّة يرأسها الأسقف. ثانياً زمن التكفير وكان يمتدّ عدّة سنين حسب ما يحدده الأسقف او الكاهن المعرّف. ويلزم التائب حياة تقشّف: حرم من اكل اللحوم، تحريم من وظائف عامة، منع عن ممارسة العلاقات الجنسيّة. وكان التائب في زمن التكفير يحظّر عليه حتى المناولة. ثالثا: المصالحة والتقرب من المناولة، يضع الأسقف يده بحضور الجماعة المسيحيّة على رأس التائب يوم خميس الأسرار ويباركه يقبل توبته. ويبقى مع هذا العديد من القوانين الصارمة التي يحددها الأسقف او الكاهن.
ب) المرحلة الثانية في سرّ التوبة، من القرن السادس الى القرن الثالث عشر: هنا عرفت الكنيسة طريقة جديدة بدأت في الأديار، حيث الأتحاد المستمر مع الله بالصلاة والتجرد عن العالم. ولبلوغ هذا الهدف كان لا بدّ من ان يتتلمذ المبتدئون على يد راهب قديس ليقتدوا بسيرته الفاضلة ويرشدهم لتحقيق هدفهم الرهباني. وهنا كانوا يكشفون خلال حياتهم عن اختباراتهم وصعوباتهم وكانوا بنفس الوقت يعترفون بخطاياهم ويعطيهم قانوناً من الصلوات واعمال التقشف لإتمامها تكفيراً عن الخطايا. كان المرشد والمعرّف ليس ضرورياً ان يكون كاهناً وكانوا يقومون بمهمة الإرشاد الروحي. وعلى هذه المنوال كان العلمانيون يقصدون الأديار لطلب الإرشاد الروحي وللإعتراف ولأخذ الحلّة والقانون. وهذا ما نخبر عنه في تاريخ حياتنا: الأب الروحي، التقليد الذي دخل إلى كلّ الأديار ويتابع حتى اليوم.
ج) المرحلة الثالثة من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين: سنة 1215 قرر المجمع اللاتراني الرابع في القانون 21 الإعتراف السنوي الإلزامي لجميع المؤمنين منذ سنّ الرشد. الاعتراف يتم عند كاهن الرعيّة التي ينتمي اليها كلّ مؤمن. هذا ليتحقق من صحّة إيمان المسيحيين في عصر كثرت فيه البدع. وكانت الكنيسة تقول ان من لا يتقدّم من هذا الاعتراف السنوي يحرم من الكنيسة. وكما قلنا إلى جانبه نشأت في الأديار خاصة عند الرهبان الفرنسيسكان والدومينيكان عادة الاعتراف المتوافر مرة او مرتين في الأسبوع او كل يوم، استعملوها وسيلة للتنقية والتقدّم في الحياة الروحية. وانتقلت هذه العادة إلى العلمانيين وقد وجدوا فيها وسيلة للاشتراك في آلام المسيح وللتقرب من المناولة. مع نشوء الحركة البروتستانتية قاومت الكنيسة الكاثوليكية في الغرب نظرة لوثر وكالفن عن سرّ التوبة. لوثر كان يعتبر ان التوبة ليست سرّاً خاصاً بل مكمّلاً لسرّ المعموديّة او كسرّ ارتداد إلى المعموديّة. المسيح منح كنيسته سلطة حلّ الخطايا وربطها لكنه لم يؤسس الاعتراف المفصّل للخطايا. وكالفن ينكر على التوبة صفة السرّ يقول انها ذكرى المعموديّة. وبما انّهما لا يقرّان بسرّ الكهنوت بمعناه الكاثوليكي والأرثوذكسي لذا يعتبران الحل من الخطايا يمكن ان يكون على يد علمانيين.
ضد هذه الأفكار قرر المجمع التريدانتيني ثلاث امور:
اولاً واجب الإعتراف بالخطايا المميتة على الأقل مرّة في السنة،
ثانياً واجب الإقرار بالخطايا امام الكاهن ووحده يقدر ان يمنح الحلّة او يرفضها،
وثالثاً بالتأكيد على ان هذه القوانين ليست من وضع كنسي انما واضع السرّ هو المسيح.
ما اراده المسيح يستمر على مدى الزمن والمسيحيون يشتركون بممارسة سرّ التوبة بعودة دائمة إلى الكنيسة. والكنيسة هي التي تحدد، كما فعلت عبر الأجيال، طريقة ممارسة هذا السلطان. الإعتراف الفردي للكاهن مع طلب الإرشاد كان لإجيال من المسيحيين الوسيلة الفضلى للتنقية من الخطيئة والتقدم في الحياة المسيحيّة. قد يكون عصرنا الحاضر يشهد اهمالاً للإعتراف الفردي ورغم ذلك اقبالاً متواتراً على المناولة، هذا يجعلنا في حالة حيرة، ماذا نعمل؟
سنة 1972 اصدر البابا رسالة لتجديد سرّ التوبة، وتكلّم عن طرق ثلاث:
اولاً الإعتراف الفردي للكاهن ومنح الحلّة الفرديّة.
ثانياً الإعتراف الفردي للكاهن خلال رتبة توبة جماعيّة ويحصل التائب على حلّة فرديّة.
ثالثاً رتبة توبة جماعية مع حلة جماعيّة دون سماع الإعتراف الفردي شرط ان يسمح الأسقف بذلك وفي حالات معيّنة.
كيف نمارس هذا السرّ اليوم؟
الجوهري في هذا السرّ هو اللقاء الشخصي بيني انا الشخص التائب وبين الله الذي يعيد لي الخلاص. ومهما فتشنا عن صيغ، جميل ان نحافظ على هذا اللقاء مع الله، لأنه يُعطي الإنسان نعمة خاصة. إنّه لقاء دائم مع الله، سيد الخلاص.
1- ما هي عناصر سرّ التوبة؟
عناصر سرّ التوبة: فحص الضمير، الندامة، الإقرار بالخطايا، التكفير، الحلّة، الكفّارة.
1) فحص الضمير : انواع الضمير: في القواعد يوجد ضمير منفصل ومتّصل، كذلكَ في الحياة المسيحيّة يوجد ضمير منفصل وضمير متّصل بالله. الطلوب هو ان يكون ضميري متّصلاً بالله. الناس يتوزعون إلى ثلاث فئات:
ذات ضمير مخدّر يحولون الحرام إلى حلال.
ضمير موسوس: ادنى صغير يجعل منه جريمة كبيرة ولا يرى الخطيئة في حجمها وهذا طرف آخر وليس المطلوب.
وذات الضمير السليم هم الذي يرون الخطأ خطأً في حجمِه.
فحص الضمير هو إعادة قراءة الحياة يومياً ليرى الإيجابيات والسلبيات، ما قربّه وما ابعده. قراءة الحياة على الضوء الذي يمنحني اياه الله في حياتي.
2) الندامة : هي ليست مجرّد شعور بالإسف، هي ارتداد القلب في الداخل العودة في العمق لملاقاة الله. ويجب ان يصدر عنها افعال يعيشها التائب في داخله: محبّة الله فوق كل شيء. وتبقى ناقصة إذا لم يعد الإنسان إلى محبّة الله ويحاسب ذاته.
3) الإقرار بالخطايا: يسمح للإنسان مواجهة اعماله ضدّ الله ويتحمّل مسؤوليتها وهذا مهم حتى لا يعود إليها ثانية. وهذا جزء جوهري من سرّ التوبة، وهذه هي النقطة التى كثيرون منّا يقولون لماذا هذا الإقرار او يخجلون منه، ويعترضون على الإعتراف: لماذا اعترف واعود لخطيئتي؟ ماذا سيفكر بي المسيح اذا قلت خطيئتي؟ لماذا عليّ ان اتحمّل مسؤوليّة الماضي؟ البعض يعتبرون الإعتراف يشبه الجلوس امام الطبيب النفساني وهذا امر غير مرغوب. وما دامت محبّة الله تسبقنا، لماذا عليّ ان اعترف بخطيئتي؟ وكثيرون يعترفون لله مباشرة، وينسون درب الندامة والتواضع، وان كلام الكاهن وتوجيهه والحلّة التي يُعطينا اياها هي تأكيدات لما يمنحه الله. والبعض يعترضون ان الإعتراف اذلال، انما هو وقفة صدق مع الذات والله. الإعتراف إذا هو فعل تواضع، الإنسان عاشه بقلبه، يعبّر عنه امام الكاهن، وهذا وعي للخطيئة وتأكيد للغفران الذي احصل عليه من الله. ليس سهلاً ان اقول ما اقترفت من بشاعة، ولكن النعمة الكبيرة تلك التي احصل عليها من الله بواسطة الكاهن.
4) التكفير:توجد خطايا اقترفتها تجاه الله والآخرين وذاتي. عليّ ان اجد سبيلاً لاكفّر إذا اهنت آخر، وان أُعوِض. انا جحدت بالله اعوض بفعل إيمان كبير. التكفير تعويض عن الخطأ الذي تمّ في حياتي. وعليّ ان أعيشه بالعمق.
5) الحلّة : الأسقف والكاهن وحدهما يمنحاني غفران خطاياي.
6) الكفّارة : الكاهن يحدد ما عليّ ان اقوم باعمال رحمة او تقشّف وصلاة لأعوّض عن خطيئتي.
4 - ما هي مفاعيل سرّ التـوبـة؟
سر التوبة له مفاعيل في النفس الإنسانية وفي عيش الإنسان التائب، ككل الأسرار الباقية. ولسرّ التوبة اربعة مفاعيل عامّة يشرح عنها كتاب التعليم الديني للكنيسة الكاثوليكية، الصادر مؤخراً. هذا بالإضافة إلى المفاعيل الثانوية الأخرى كالراحة والسلام النفسي الذي يحصل عليه التائب، كالشعور بالتجدد والحمية إلى الإنطلاقة الجديدة. نتوقف عند المفاعيل الأساسيّة الأربعة:
"1"- اول مفعول هو المصالحة مع الله: يقول التعليم المسيحي في العدد 1468: كل مفعول سرّ التوبة ان يعيدنا إلى نعمة الله ويضمنا إليه في صداقة قصوى. ان الذي يُقبِلون إلى سرّ التوبة بقلب منسحق واستعداد ورع يشعرون من بعده بسلام الضمير وراحته ترافقهما تعزية روحية قويّة. ذلك بأن سرّ المصالحة مع الله يجلب لنا قيامة روحيّة حقيقيّة واسترداداً لما يملكه ابناء الله في حياتهم من كرامة وخيرات اثمنها صداقتنا مع الله.
"2" المفعول الثاني، في العدد 1469: هذا السرّ يصالحنا مع الكنيسة. فالخطيئة تحطم الشركة الأخوية. سرّ التوبة يصلحها ويرممها. وهو في هذا الصدد لا يشفي فقط من أُعيد الى الشركة الكنسيّة بل يُحدث أثراً محيياً في حياة الكنيسة التي المّت بها خطيئة احد اعضائها. فإذا ارتد الخاطئ إلى شركة القديسين وثبت فيها فهو يتقوّى بتبادل الخيرات الروحيّة بين جميع اعضاء جسد المسيح الحيّة. سواء الذين لا يزالون في دروب هذا الحياة ام الذين سبقونا إلى الوطن السماوي.
"3" المفعول الثالث: بهذا السرّ يستبق الخاطئ نوعاً ما بوضع ذاته تحت حكم الله الشفوق. هذا الحكم الذي سوف يخضع له في ختام حياته الدنيوية. لأننا الآن ونحن في قيد هذه الحياة يُترك لنا الخيار بين الحياة والموت. وليس لنا إلاّ التوبة باباً لدخول الملكوت الذي تنفينا منه الخطيئة الثقيلة. فعندما يرتدّ الخاطئ إلى المسيح بالتوبة والإيمان ينتقل من الموت إلى الحياة ولا يخضع للدينونة.
"4" المفعول الرابع: هو الغفران والغفرانات التي يحصل عليها الإنسان، هو النعمة الخاصة التي يحصل عليها الإنسان من خلال عطيّة ربّنا بنعمة المصالحة معه ومع الكنيسة. الغفرانات هي استحقاقات المسيح والقديسين التي يفيضها الربّ علينا من خلال التماسنا بتوبتنا الغفران منه.
5- مانح سـرّ التوبـة؟
بالعودة إلى نص التعليم المسيحي الديني للكنيسة الكاثوليكية في عدده 1461 نجد انّ المسيح قد وكّل إلى رسله خدمة المصالحة فالأساقفة خلفاؤهم والكهنة معاونو الأساقفة يوصلون القيام بهذه الخدمة. الأساقفة والكهنة هم الذين يملكون بقوة سرّ الكهنوت سلطان مغفرة الخطايا كلها باسم الآب والإبن والروح القدس.
هذه المغفرة التي تصالحنا مع الله والكنيسة. الأسقف هو الرأس المنظور في الكنيسة هو صاحب السلطان الأول في خدمة المصالحة، والكهنة يمارسون هذا السلطان بقدر ما ينتدبهم لهذه المهمة اسقفهم. الكاهن يأخذ الإذن من اسقفه ليمارس سرّ الإعتراف. وذلكَ ضمن الأبرشية. او البطريرك يمنح بعض الكهنة اذناً ليعرّفوا في كلّ المناطق، او قداسة البابا يمنح الإذن لكهنة ليعرّفوا في كل مكان. والأسقف الذي يحلّ من كل الخطايا يعطي هذا الإذن او بعضاً منه للكاهن. في حال خطر الموت يجوز لكل كاهن وإذا لم يُفوَّض إليه سماع الإعترافات ان يحلّ من كلّ خطيئة ومن كل حرم. حتى إذا لم يملك التفويض.
التعليم المسيحي :" 1465" عندما يقوم الكاهن يخدمة سرّ التوبة انّما يقوم بخدمة الراعي الصالح الذي يبحث عن النعجة الضالّة وخدمة السامري الرحيم الذي يضمّد الجروح والأب الذي ينتظر الإبن الشاطر ويرحّب به عند عودته والقاضي الذي لا يُحابي احداً ويصدر حكماً عادلاً ورحيماً. وقصارى القول ان الكاهن هو علامة محبّة الله ورأفته بالخاطئ واداتهما.
الخاطئ يخاف من خطيئته والكاهن يعيش هذا السرّ بنفس الرهبة، مسؤوليّته كبيرة وسامية.
الخاتمة:
إن سر المصالحة كالافخارستيا، ليست سرّ مرحلة من مراحل الحياة المسيحيّة الكبرى. بل هي سرّ "الطريق"، غالباً ما نمارسه. لذلكَ فهي تشكّل قضيّة في نظر الكثيرين.
(راجع ري مرميه: "تعالوا إلى المصالحة". الإعتراف اليوم؟ ، منشورات سنتريون، باريس. طبعة سادسة، 1975).
الســؤال : نطرح سؤاليـن عملييّـن، تكون الإجابة بحسب الخبرة.
1-ما هي فوائد الإعتراف المتكرر والمتواتر بكثرة، وما هي اخطاره؟
2- هل الإقرار بالخطايا يكفي للغفران؟ لماذا؟
الأب/ مجدي فوزي